تأمل الجماعات الجهادية في سوريا في هزيمة قاسية لموسكو بكييف مما يغير المعادلات وخرائط النفوذ في دمشق لصالح المعارضة المسلحة وحلفائها، لكن روسيا التي تدرك نوايا الغرب لن ترغب بالهزيمة في سوريا أيضا، وقد تستغل دمشق لتصبح ورقة مُمَهِدة لحل سياسي وتسوية بشأن أوكرانيا تجنب المعسكرين والعالم أجمع سيناريوهات غامضة ومرعبة.
ويتابع الجهاديون في سوريا تطورات الحرب في أوكرانيا وعينهم على مستقبل وجودهم، بالنظر إلى أن الحجم السياسي والاستراتيجي الذي تكسبه أو تفقده روسيا على ضوء نتائج الصراع المسلح الحالي في شرق أوروبا، هو الذي يحدد قدرات موسكو المستقبلية على ممارسة الدور الذي كانت تمارسه خلال السنوات الماضية على الساحة السورية.
وتراود الجهاديين الذين يسيطرون على الشمال الغربي السوري ومحافظة إدلب أحلام يقظة بأن تؤول الحرب في أوكرانيا إلى خسارة كبيرة ومدوية لروسيا التي تعد اللاعب الأقوى والأكثر نفوذا في سوريا، ما يغير المعادلات وخرائط النفوذ في دمشق لصالح المعارضة المسلحة وحلفائها.
وتمنت عناصر قريبة وموالية لهيئة تحرير الشام على حساباتها على تليغرام انهيار النظام الحاكم في موسكو بالكامل ونشوء نظام جديد لا يتبنى فحسب مقاربات مختلفة تجاه أوكرانيا وحلف الناتو، بل بموازاة ذلك يضعف نظام دمشق الحليف الأقرب لروسيا في الشرق الأوسط، ما يعني منح قوات المعارضة هامشا لإعادة تدويرها من منطلق التوقعات التي رشحت سوريا لتصبح قريبا ساحة من ساحات النزاع الذي يكتسب تدريجيا طبيعة استنزافية وشمولية محاكيا أجواء الحربين العالميتين الأولى والثانية ولو لم يتحول فعليا إلى حرب عالمية ثالثة.
أوهام وتحديات
تعاني الجماعات المسلحة في الشمال السوري من أزمات مركبة منذ إلحاق الهزيمة بها بعد التدخل الروسي المباشر عام 2015، حيث تجد صعوبة في إدارة المناطق التي تسيطر عليها ولم يعد رفعها للشعارات الثورية ومزاعم تصديها للنظام السوري يقيها من ارتفاع الصوت المعارض وخروج مظاهرات غاضبة لا يفرق منظموها بين ممارسات نظام دمشق وما فعله الجهاديون وأمراء الثورة من تقييد للحريات وسوء إدارة وفساد أدى إلى تردي الأحوال المعيشية والغلاء في الأسعار وانتشار البطالة.
وسخر ناشطون مؤخرا من رعاية هيئة تحرير الشام لاحتفالات بذكرى الثورة السورية التي انطلقت في مارس عام 2011 ووصفوا مظاهر الرقص والدبكات ببيع الأوهام مطالبين بمحاسبة من سرق الثورة وتاجر بدماء أبنائها، في حين نشر أحد الناشطين تعليقا على الارتفاع غير المسبوق لأسعار الوقود والسكر صورة لأبي محمد الجولاني مصحوبة بعبارة “تحلوا بالصبر”، متندرا بأن هذا هو الحل المثالي لأزمة السكر من القائد المفدى.
كما ترفض الولايات المتحدة والدول الأوروبية منح الاعتراف الدولي بشرعية هيئة تحرير الشام ورفعها من قائمة المنظمات الإرهابية، وضعفت الرواية التي تصدرها الهيئة للغربيين بشأن فرضية إسهامها في مكافحة الإرهاب العابر للحدود والمقاتلين الأجانب بعد تكرار ثبوت تمركز قادة داعش وآخرهم قائد التنظيم السابق عبدالله قرداش الذي تمت تصفيته في إدلب بمنطقة واقعة تحت نفوذ الهيئة.
ويأمل قادة هيئة تحرير الشام في أن تمضي سيناريوهات الحرب الأوكرانية باتجاه مآلات تغير أوضاعهم المأزومة والمتردية في سوريا، من عينة حدوث انكسار كبير وخسائر فادحة للجيش الروسي يؤدي إلى غضب شعبي روسي يقصي الرئيس فلاديمير بوتين عن السلطة، بما يمهد لتغيير كبير في معادلات الصراع السوري لصالح الهيئة.
ويتوجسون خيفة أيضا من فرضية انتصار روسيا في أوكرانيا، ما ينعكس إيجابا على مصالح موسكو ويقوي نفوذها في سوريا، وقد يصل إلى مستوى رغبتها في تعميم انتصارها عبر الضغط بمختلف الوسائل على الولايات المتحدة للانسحاب الكامل من الأراضي السورية.
أدوار ومكاسب
ليس من المستبعد تصاعد الصراع بين روسيا والناتو على الأراضي السورية على ضوء تطورات الحرب في أوكرانيا، ومن منطلق سيناريوهات محددة قد تحدث في أوكرانيا وشرق أوروبا، مثل نشوب مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، أو في حال تحقيق روسيا للحد الأعلى من أهدافها العسكرية والسياسية من الوارد أن تعمد واشنطن لتوسيع دائرة المواجهات مع موسكو في أكثر من رقعة، وفي مقدمتها سوريا لوقف تراجع هيبة الغرب في العالم.
ولن تسمح واشنطن ببقاء القوات الروسية مستقرة في سوريا خلال مراحل محددة مع الحاجة الملحة لاستنزاف روسيا في مختلف الجبهات عبر توسيع نطاق المواجهات، ما يلفت لدور متوقع للوكلاء وجماعات المعارضة المسلحة على الأرض وغالبيتها تشكيلات جهادية تُسند إليها مهام عسكرية متقدمة مثل استهداف القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
هذا السيناريو لا يغيب عن خطط صانع القرار الأميركي والغربي ومن الوارد حدوثه على الساحة السورية ليس فقط في حال نجحت القوات الروسية في تحقيق كل أهدافها العسكرية والسيطرة على كييف وفرض حكومة عسكرية موالية لها لمعاقبة موسكو في سوريا وحرمانها من نفوذ متعاظم في أوروبا والشرق الأوسط، إنما قد يحدث في حال اتجهت الحرب إلى نتيجة عكسية على غير ما خطط له الرئيس الروسي بوتين.
ويؤدي طول أمد الصراع والاستنزاف للجيش الروسي إلى غضب بالداخل يقود لانقلاب على بوتين وتغيير في هيكل السلطة في روسيا وليس في أوكرانيا، وهو ما ستنتهزه الولايات المتحدة للتدخل بثقلها في سوريا بالتوافق مع تركيا لتصفية النفوذ الروسي وقلب المعادلة لصالح المعارضة المسلحة والجهاديين وحلفاء الناتو على الأرض.
ويفرض هذا المسار أدوارا جديدة على الجماعات المتطرفة المسلحة الموالية لتركيا في الساحة السورية وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، قد تصل إلى مستوى شن هجمات ضد المواقع الروسية وضد الحكومة السورية.
وتتمنى هيئة تحرير الشام وغيرها من الميليشيات المسلحة الناشطة في سوريا أن يُسند لها سريعا هذا الدور من قبل الولايات المتحدة والغرب ويتطور حضور حلف الناتو بسوريا لتخرج من أزماتها المركبة وتعيد تدوير نفسها في المشهد السوري، لأن لديها هواجس من أن روسيا نفسها قد تسبق بدعم هجوم عسكري يطال مناطق غربي وجنوبي إدلب كورقة ضغط في وجه الغرب وتركيا وصرف النظر عن انتهاكاتها في الساحة الأوكرانية.
ويضطر هذا الخيار الولايات المتحدة والدول الغربية للعودة إلى المربع الأول في سوريا بمعاودة التعاون النوعي مع تشكيلات المعارضة المسلحة، لأن روسيا في حالتي انتصارها أو انكسارها في أوكرانيا قد تبحث عن نصر كامل في سوريا ولن تتوقف ساعتها عند إدلب إنما سوف تسعى لمزاحمة واشنطن على وجودها العسكري شرقي نهر الفرات.
وربطت واشنطن مبكرا بين ما يجري في أوكرانيا بالملف السوري عندما صعدت ضد نظام دمشق بعد التدخل العسكري الروسي مباشرة عبر تفعيل ملف المحاسبة وتشديد العقوبات ونشرت السفارة الأميركية في دمشق بيانا مفاده انتهاء إفلات سوريا من العقاب، وحددت شهر مارس بأن يكون بداية المحاسبة، علاوة على رد فعل واشنطن الغاضب بعد استقبال دولة الإمارات العربية المتحدة للرئيس السوري بشار الأسد مؤخرا.
ويعد الربط مؤشرا على رغبة المحور الأميركي – الأوروبي في توسيع نطاق المواجهات تدريجيا عبر القول للروس أولا إن تداعيات الحرب لن تنحصر داخل أوكرانيا بل ستمتد لساحات أخرى خاضعة لنفوذ موسكو ومنها الساحة السورية، ما انطوى على احتمال حدوث تغيرات حيال الجماعات المسلحة من جانب واشنطن.
وتشكل تلك التطورات، إذا اكتملت سيناريوهاتها، مكاسب كبيرة للجهاديين في سوريا، فبعد فقدان الثقة من جانب واشنطن بفصائل المعارضة السورية المسلحة على الأرض قد تعاود دعمها، والأمر لن يتوقف على محاسبة النظام السوري وقطع المساعي الروسية لإعادة تعويمه، إنما من الوارد دعمها للمعارضة بأسلحة نوعية ومتطورة قادرة على مواجهة الجيش السوري والروسي والتخطيط لعزل حكومة دمشق تمهيدا لإسقاطها بهدف إلحاق الضرر بروسيا والحد من نفوذها الذي حققته منذ 2015.
كما أن سحب مقاتلين موالين لنظام دمشق للقتال بجانب القوات الروسية في أوكرانيا يفيد ميدانيا وعملياتيا الجماعات المتطرفة المسلحة في سوريا، فضلا عن استفادتها من سحب الأصول الأمنية والعسكرية الروسية لنشرها في أوكرانيا، ما يؤدي إلى ترك مساحة لنشاطها ويمنحها متنفسا ومساحة لترتيب أوراقها وتكريس نفوذها وحضورها على الأرض.
ورقة للتسوية
من المفترض أن يحول تشابك مصالح العديد من القوى العالمية الكبرى والإقليمية التي تلعب أدوارا مؤثرة في الفضاء السوري مثل الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران دون حدوث انعكاسات كبيرة للحرب الأوكرانية داخل سوريا، ويعني حضور إسرائيل التي تربطها علاقات قوية بالطرفين المتصارعين أن تكون الرغبة في التوافق حول الملف السوري مقدمة على التصعيد.
ولا ترغب روسيا حتى إذا هزمت في أوكرانيا أن تنهزم في سوريا ولا يرغب الناتو إذا تشدد في سوريا أن تتشدد روسيا في أوكرانيا لتحمي انتصارها هناك أو العكس، ويعلمون جميعهم أن أولويات الغرب في الملف السوري ليست هي نفسها أولوياتهم في أوكرانيا، فالغرب ليس مختلفا مع روسيا بشأن نفوذه في سوريا، عكس موقفه بشأن رفض الغزو ومد النفوذ الروسي داخل أوكرانيا.
وإذا جلست روسيا على مائدة التفاوض وعُرضت عليها المقايضات فإن شبه جزيرة القرم وجورجيا وأوكرانيا أكثر أهمية بالنسبة إليها من سوريا، حيث تخص المجموعة الأولى الفضاء الحيوي وتمس مباشرة الأمن القومي.
ويعطي الفصل بين الساحتين الأوكرانية والسورية مساحة للحل ومرونة في التعاطي قد تشكل مخرجا للجميع من المأزق العالمي المحتدم الآن ولإبعاد شبح نشوب حرب عالمية ثالثة ومواجهات عسكرية نووية مع روسيا، كأن يكون عدم التصعيد الغربي في سوريا وعدم تغيير معادلات النفوذ في سوريا ورقة مساومة لدفع موسكو لتقديم تنازلات في أوكرانيا.
وبدلا من أن تتحول سوريا إلى ساحة تبادل الرسائل ورغبات الثأر وخطط الاستنزاف بين الفاعلين الدوليين على خلفية التطورات في الساحة الأوكرانية تصبح ورقة مُمَهِدة لحل سياسي وتسوية بشأن أوكرانيا تجنب المعسكرين سيناريوهات غامضة ومرعبة.
في هذه الحالة تحقق روسيا انتصارا مقبولا وخروجا بأقل الخسائر الممكنة وبما يحفظ ماء الوجه من المغامرة الأوكرانية باهظة الكلفة، وتتجنب الدخول في صراع مع القوات الأميركية المتمركزة داخل سوريا، وتحول دون إعادة تدوير الجهاديين وميليشيات المعارضة، والحفاظ على التفاهمات الموقعة مع أنقرة بداية من صيف 2019 حتى مارس 2020.
وبالمختصر فإن التعامل مع سوريا كورقة تسوية لا ساحة خلفية للحرب في أوكرانيا يغلق الباب أمام سيناريوهات عدة ويبقي المناطق السورية التي تسيطر عليها حكومة دمشق ضمن الفضاء الروسي، ويضمن ترك فصائل المعارضة المسلحة السورية لمصير التدمير والسقوط الذاتي عاجلا أو آجلا.
هشام النجار – كاتب مصري – صحيفة العرب
مشاركة المقال عبر