يمر العالم بأسره في مرحلة انعطاف وتحول كبرى، تجري وقائعها المباشرة على الأرض الأوكرانية، ولكنها تمتد بآثارها إلى كل بقاع الأرض.
وإذا كانت التأثيرات الأكثر أهمية بالمعنى العام والتاريخي هي التأثيرات والمضامين السياسية والاقتصادية المتعلقة بالنظام الدولي، والمنظومة المالية، وكذا منظومة التبادل اللامتكافئ، فإنّ الجانب المتعلق بالأزمات التي يتسبب فيها نظام العقوبات، لا يجد له مكاناً كافياً في بحر التعليقات والتحليلات.
ما نقصده على وجه الخصوص، هي التأثيرات القصيرة المدى التي بدأت فعلاً، والتي ستزداد، خلال الأيام والأسابيع والأشهر القليلة القادمة، على مجمل الدول في العالم بالمعنى الاقتصادي، وبشكل أكبر وأكثر كارثية على الدول الأضعف والشعوب الأكثر فقراً… والشعب السوري ضمن هذا السياق هو من أشد الشعوب ضعفاً في اللحظة الراهنة بالمعنى الاقتصادي- المعاشي، بحسب ما نشره موقع قاسيون.
أرقام ما قبل أزمة أوكرانيا
وفقاً للأمم المتحدة، فإنّ حوالي 12 مليون سوري يعيشون في حالة انعدام الأمن الغذائي.
سجل إنتاج القمح في سورية (1045) ألف طن عام 2021 مقارنة بـ (3858) ألف طن عام 2011، و(4745) ألف طن عام 2001 (أي أنّ التراجع في الإنتاج هو ضمن خط ثابت نزولاً ابتداءً من بداية هذه الألفية.
وفقاً لدراسة حديثة للأمم المتحدة، فقد عانى 25% من الأطفال في سورية من التقزم، و46% من فقر الدم الناتج عن نقص الحديد.
انخفض الدعم الحكومي للزراعة بين 2002 و2019 من 564 مليون دولار إلى 77 مليون دولار، أي: إن الدعم للزراعة جرى تقليصه ضمن هذه الفترة من السياسات الليبرالية (وبالتدريج ومنذ ما قبل 2011 وما بعدها) بنسبة 86%…
تقلصت المساحات المزروعة بين 1998 و2019 بمقدار يقرب من 600 ألف هكتار.
بينما تدعي الحكومة أنّها «وفّرت» 1 ترليون ليرة سورية من عمليات تخفيض الدعم التي تقوم بها، فإنّ المصارف الخاصة المسجلة في بورصة دمشق، وهي 14 بنكاً، قد حققت ربحاً في عام 2021 فقط مقداره 1.1 ترليون ليرة، جرى تحصيل 48 مليار ليرة منها فقط كضرائب للدولة، بينما بالنسبة للمقدار نفسه من الأرباح في مصر مثلاً يمكن تحصيل ضريبة تصل إلى 536 مليار ليرة…
خلال عشر سنوات انخفض إجمالي الدعم الحكومي المعلن من 5.51 مليار دولار، إلى 1.53 مليار دولار، أي إنه تقلص إلى ربع ما كان عليه تقريباً.
مع بداية عام 2022، ووفقاً لمؤشر قاسيون الربعي، فإنّ وسطي تكاليف معيشة أسرة سورية من 5 أفراد قد تجاوز مليوني ليرة شهرياً بينما الأجور باتت تشكل أقل من 5% من هذا الرقم، وذلك ضمن حسابٍ تقشفي يعطي وزناً للغذاء هو 60% من إجمالي سلة الاستهلاك.
هذه الأرقام ليست إلّا جزءاً يسيراً من حجم العُسر الذي تعيشه العائلات السورية ويعيشه السوريون بشكل يومي، ناهيك عن الكهرباء والمواصلات والطبابة والتعليم والأزمات التي لا تحصر ولا تعد… والتي تسعى الحكومة ويسعى متشددو الحكومة والفاسدون الكبار فيه إلى إلصاقها كلها بالعقوبات، بينما يواصلون تكريس السياسات الليبرالية المتوحشة، ولا يقومون بأي إجراءٍ جدي للتصدي للعقوبات ولإيجاد بدائل… بينما نرى اليوم الملامح الأولية لنموذج روسي في التعامل مع العقوبات يقوم على إجراءات صارمة اتجاه الاحتكارات واتجاه رؤوس الأموال الأجنبية، بما في ذلك فتح الباب أمام إمكانيات التأميم… على العكس من ذلك تماماً، في سورية وخلال السنوات الماضية، ازداد الاحتكار تمركزاً، وقل عدد السارقين والناهبين، ولكن زادت حصتهم، أي جرت عملية مركزة للنهب، وأحد مؤشراتها الأساسية هو مركزة عمليات الاستيراد والتصدير، وخاصة في المواد الأساسية، في أيد بضعة حيتان كبار، باتوا يمتصون لا دماء السوريين في الداخل فحسب، بل ودماء أبنائهم الذين في الخارج، والذين باتت تحويلاتهم المالية المتواضعة لأهاليهم مطرحاً أساسياً من مطارح النهب الداخلي.
ما بعد أوكرانيا
إذا كان الوضع كذلك ما قبل الأزمة الأوكرانية، والتي دفعها الغرب بعقوباته إلى أزمة عالمية متكاملة، ابتداءً من أسعار الطاقة والغذاء والشحن ووصولاً إلى كل الأسعار، فإنّ التأثيرات قصيرة المدى على سورية، وفي ظل التحكم الكامل كما تثبت الوقائع للفاسدين الكبار والحرامية واللصوص بالاتجاهات الأساسية للعمليات الاقتصادية في البلاد، ستكون مأساة اقتصادية اجتماعية متكاملة الأوصاف باتت تقف على عتبة باب كل بيت سوري.
بنظرة سريعة على الأسعار اليوم، فإنّ أسعار القمح في العقود الآجلة للأشهر الثلاثة المقبلة من المتوقع أن ترتفع بنسبة تصل إلى 40%، وأما أسعار النفط فقط تجاوزت فعلاً عتبة 100 دولار للبرميل، وأسعار الغاز فهي تحلق.
كذلك الأمر مع كل الخامات والمعادن بأنواعها المختلفة. وهو ما سينعكس على كل الأسعار العالمية.
بالنسبة لنا في سورية، فإنه ليس هنالك لدى أيّ عاقل أيّ أمل بأن تنحو الحكومة- وأن ينحو المتسلطون في الدولة- أي منحىً إيجابي أو تدخلي ضد التجار الكبار والحرامية لمحاولة التخفيف من الآثار المحدقة. وليس لدى أي عاقل أدنى أمل بمحاصرة محتكرين أو تدوير عجلة إنتاج أو أي إجراء إيجابي أياً يكن… بل على العكس من ذلك، فإن الناس يتوقعون أن يجري استثمار الأزمة الدولية لرفع معدلات النهب وبغض النظر عما سيجري للسوريين، حتى وإن وصل حد المجاعة الفعلية.
هذا الجانب من التأثيرات الذي قد لا يهتم كثيرون بالإضاءة عليه، يهم كل أسرة سورية من أبناء شريحة الـ 90%. ويعيد التأكيد على أنّ الأزمات الاقتصادية في سورية لا حل اقتصادياً لها، بل حلها سياسي عبر التنفيذ الكامل للقرار 2254، وبما يفتح الأفق أمام تغيير جذري شامل للمنظومة القائمة، والذي لا يمكن دونه السير في حل أية مشكلة من المشكلات التي يعيشها السوريون، لا الصغيرة منها ولا الكبيرة.
مشاركة المقال عبر