لجأت تركيا إلى تثبيت أقدامها في منطقة شرق البحر المتوسط الغنية بالغاز، واعتمدت على دبلوماسية البوارج الحربية مع كل من اليونان وقبرص فأخفقت، وسعت للتواجد العسكري في ليبيا وعقد اتفاقيات أمنية واقتصادية مع حكومتها السابقة ولم تحقق أغراضها، وحاولت تطبيع العلاقات السياسية مع مصر ولا تزال تتعثر.
قررت تركيا أخيرا اللجوء إلى إسرائيل على أمل أن تتمكن من تطوير الشراكة معها وتجد مدخلا جيدا يعوّضها عن أدواتها التي لم تمكّنها من الوصول إلى أهدافها، الأمر الذي كان أحد الملامح الرئيسية التي حملتها زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ إلى أنقرة قبل أيام، وشهدت حفاوة بالغة من المسؤولين في تركيا.
لم يتعامل الكثير من المتابعين لمسار العلاقات بين تركيا وإسرائيل مع الخطاب الحماسي السابق الذي تبناه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بجدية، لأن تاريخ الرجل يعزز انتهازيته وقدرته على التراجع في أيّ لحظة، كما أن التوتر الظاهر بين أنقرة وتل أبيب لم ينعكس سلبا على شكل التعاون الأمني والاقتصادي بينهما، ناهيك عن عدم وجود معالم تؤكد أن تركيا تدعم القضية الفلسطينية في مواجهة صلف إسرائيل.
لذلك فزيارة هيرتسوغ، وهي الأولى لرئيس إسرائيل منذ حوالي عقدين لأنقرة بدعوة من أردوغان، لا تحمل مفاجأة كبيرة للعارفين بتوجهات النظام التركي، ويمكن فهم ما يبدو كأنه تحول سياسي في سياق جملة من التطورات الإقليمية تحدد إلى أيّ مدى تستطيع أنقرة الاستفادة من تداعيات الزيارة في ملف غاز شرق البحر المتوسط.
إذا كانت للزيارة دوافع سياسية ومآرب اقتصادية عديدة، فإن الأمل الذي يراود تركيا لتوظيف إسرائيل في صراعها لأجل الاستحواذ على جزء من كعكعة شرق المتوسط هو الأكثر بروزا بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا وما تحمله من تأثيرات اقتصادية خطيرة، في مقدمتها ارتفاع أسعار النفط والغاز وعدم استبعاد انعكاسها على صادرات موسكو للدول الغربية من هذين السلعتين الحيويتين، ما يمنح الدول التي قامت بهندسة أدوارها مبكرا في شرق المتوسط أهمية فائقة.
وفشلت التحركات التركية في أن تجعل أنقرة الرقم الصعب في معادلة هذه المنطقة، فقررت اللجوء إلى إسرائيل والتغاضي عن الخلافات المتقطعة معها، إذ وجدت أن كل الطرق تكاد تكون مسدودة مع مصر، والتي تلعب دورا مهما في منطقة شرق المتوسط وشكلت منتدى يضم الدول المؤثرة فيها، ليس من بينها تركيا، وتواجه خطوات التقارب التي بدأتها أنقرة نحو القاهرة تحديات جمة أدت إلى تجميدها.
وفرضت هذه المعطيات على أردوغان ضرورة التفكير بطريقة أخرى، حيث يعتقد أن اللجوء إلى إسرائيل يساعده على ضرب مجموعة من العصافير بحجر واحد، لأنها حلقة مهمة في منظومة شرق المتوسط، حيث تمد مصر بالغاز لتسييله في محطتي أدكو ودمياط على البحر المتوسط، ولديها تفاهمات اقتصادية كبيرة مع كل من اليونان وقبرص بشأن خطوط الغاز المتجهة نحو أوروبا.
وتتصور تركيا أن اختراق حلقتها وتوطيد التعاون معها يمكّنها من التأثير على الدول الثلاث (مصر واليونان وقبرص)، على اعتبار أن إسرائيل التي اعترفت بها تركيا بعد وقت قصير من إعلان دولتها ونسجت معها علاقات قوية على مدار العقود الماضية تعتبر أنقرة مدخلها إلى العالم الإسلامي.
أسقطت تل أبيب أنقرة من هذه المعادلة بعد أن نجحت في تطوير علاقاتها مع دول عربية وإسلامية كثيرة، وعقدت اتفاقيات تطبيع مع عدد معتبر منها، وأصبحت من العناصر المهمة في التوازنات الإقليمية في مواجهة كل من إيران وتركيا.
علاوة على أنها لا تستطيع التضحية بعلاقتها المتطورة مع مصر حاليا مقابل علاقة مشكوك في نتائجها وثباتها واستقرارها مع نظام خسر جانبا من مصداقيته السياسية بسبب تحولاته المتسارعة وتحالفاته المشبوهة مع قوى إسلامية.
ترى أنقرة أن التفاهم مع تل أبيب يقرّبها من الولايات المتحدة، ويوحي أن الحرب في أوكرانيا أدخلت تعديلات على توجهاتها حيال روسيا وإيران، ويمكنها التكيف مع الواقع الإقليمي الجديد، لأن الميل ناحية إسرائيل يتسق مع الخطوات التي قامت بها مؤخرا من خلال العودة إلى منهج تصفير الأزمات.
فات تركيا أن إسرائيل أو غيرها من الدول لديها شبكة معقدة من العلاقات لا يمكن تغييرها بين يوم وليلة، فزيارة هيرتسوغ لن تذيب الجليد السياسي الذي تراكم مع أنقرة، ويصعب عليها أن تكون بمفردها نقطة التحول في ترتيبات شرق المتوسط التي تمكّنت إسرائيل من أن تنخرط في مكوّناتها المختلفة، مع مصر واليونان وقبرص بشكل جماعي وفردي، ولن تضحي بذلك لأجل عيون أردوغان.
من حق الرجل أن يعمل على إعادة النظر في علاقته مع إسرائيل، ومن حقه أيضا أن يطرق كل الأبواب التي تساعده لتحقيق اختراق في شرق المتوسط، لكنه تجاهل أن مثل هذه القضايا لا يجب التعامل معها بالقطعة، فإسرائيل لن تتحالف معه في مواجهة مصر أو تضحي بما وصلت إليه من تطور في علاقاتها بكل من اليونان وقبرص.
يريد الرئيس التركي أن يوحي لجهات في الداخل والخارج أنه الشخص الذي لا أحد تجاهله في شرق المتوسط ومعه من الخيارات ما يجعله يعيد خلط الأوراق وإعادة ترتيبها بالصورة التي تحقق أهدافه، لأن تدفق الغاز بغزارة من هذه المنطقة باتجاه أوروبا واستمرار أنقرة على حالها من التهميش قد يصبّ عليه اللعنات السياسية في الداخل ويتم تحميله وتصوّراته الخاطئة مسؤولية هذه الخسارة.
ليس بالضرورة أن يكون تطوير العلاقات مع إسرائيل موجها للدول التي دخل معها في عداوات بالمنطقة، لكن يمكن أن يصبح بوابة يعيد بها الرئيس التركي حساباته بعد أن جرّب مع مصر ولم يحالفه الحظ، ويجرّب مع كل من الإمارات والسعودية ولم يجد حتى الآن المردودات السياسية التي يتمناها وتؤكد أن الإقليم أمام أردوغان جديد.
فقدت لعبة تبادل الأدوار وتوظيف الخصوم جاذبيتها في المنطقة وتراجعت التجارة بورقة إسرائيل في مواجهة الدول العربية، بما يقلل من قدرة تركيا على الاستفادة منها في مسألة غاز شرق المتوسط، فالوقت الذي استغرقته أنقرة في المناكفات السياسية والأمنية ضيّع عليها العديد من الفرص، والتي يصعب أن تكون إسرائيل الأداة لتعويضها، لأن حساباتها مع أنقرة دخلت عليها تحوّلات الفترة الماضية تبعدها لتصبح رهينة لرئيس دولة يمكن أن يتقلّب على الجمر كما يتقلب على الماء البارد.
لن تستطيع تركيا تثبيت أقدامها تماما في منطقة شرق البحر المتوسط عبر القناة الإسرائيلية وحدها، فربما تجني مكاسب مؤقتة وترسل رسائل لمن يهمّهم الأمر بأنها تتغير، لكنها لن تفلح في تحقيق ما تريد ما لم تحدث تعديلا واضحا في العصب المركزي لسياساتها في المنطقة التي أدخلتها في دوامة لا تنتهي من الخلافات.
محمد أبو الفضل- كاتب مصري – صحيفة العرب
مشاركة المقال عبر