يقول المنطق إن العالم سيتفادى حربا عالميّة ثالثة تتسبب بها حرب أوكرانيا التي تتعرّض لاجتياح روسي. على الرغم من أنّ العالم لن يشهد، على الأرجح، مثل هذه الحرب العالميّة، لكنّه سيصبح مختلفا في ظلّ عودة نظرية توازن الرعب الذي تحكمت به منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية في العام 1945… حتّى انهيار الاتحاد السوفياتي رسميا أوائل العام 1992.
لن يكون عالم ما بعد أزمة أوكرانيا وحربها مثل عالم ما قبل العمليّة العسكريّة الواسعة النطاق التي يشنّها فلاديمير بوتين على البلد الجار مستخدما، من أجل إخضاعه، أسلحة تقليدية وتهديدا بالسلاح النووي وحججا عفا عليها الزمن وأبعد ما تكون عن الواقع.
نسي بوتين أنّه في القرن الواحد والعشرين وأنّ ليس في استطاعته أن يكون ستالين آخر. لا يستطيع حتّى أن يكون ليونيد بريجنيف آخر، بريجنيف الذي قضى بالدبابات على “ربيع براغ” في العام 1968. تعامل في بداية ثمانينات القرن الماضي عن طريق انقلاب عسكري داخلي نفّذه الجنرال البولندي ياروزلسكي مع محاولات شعب بولندا للخروج من تحت نير الاحتلال السوفياتي. أرادت بولندا، وقتذاك، التخلّص من تحولها ضحيّة لمخلفات الحرب العالميّة الثانية التي قسمت أوروبا بين الغرب من جهة والنفوذ السوفياتي من جهة أخرى. أرادت الخروج من حصار “الستار الحديدي” الذي فرضه الاتحاد السوفياتي على دول أوروبا الشرقيّة وكان من نتائجه تقسيم ألمانيا.
استطاع فلاديمير بوتين إيقاظ أوروبا من جديد على كوابيس كانت تظنّ أنّها صارت من الماضي، بل دفنت في مكان عميق لا تستطيع الخروج منه. يتجاوز ما فعله الرئيس الروسي كلّ منطق ويتجاوز خصوصا كلّ ما له علاقة بالقيم الحضاريّة في هذا العالم الذي يبدو واضحا أنّه لم يدرك خطورة السلوك الروسي إلّا بعد بلوغه أوروبا.
قبل حرب أوكرانيا تجاهل العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، مآسي عدة من بينها مأساة لبنان ومأساة سوريا ومأساة العراق ومأساة اليمن على وجه التحديد. لم يوجد من يسأل ما الذي فعلته إيران بلبنان وكيف تسببت في انهيار مؤسسات الدولة والبلد نفسه بعدما استثمرت طوال أربعة عقود وأكثر في ميليشيا مذهبيّة أسمتها “حزب الله”. تدين هذه الميليشيا بالولاء المطلق لـ”الجمهورية الإسلاميّة” في إيران. الغريب أن روسيا وقبلها الاتحاد السوفياتي لم يفعلا شيئا في يوم من الأيّام من أجل مساعدة لبنان وكشف حقيقة ما يجري على أرضه. أمّا الغرب عموما، بما في ذلك الولايات المتحدة، فقد تعاطى مع المأساة اللبنانيّة من زاوية إنسانيّة لا أكثر رافضا الاعتراف بأنّ ما قامت به إيران في لبنان وفي سوريا والعراق واليمن لاحقا أسّس لانفلات على الصعيد الدولي.
ليس تصرّف فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا سوى تعبير صادق عن هذا الانفلات الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالقانون الدولي واحترام سيادة الدول وميثاق حقوق الإنسان.
من الواضح أنّ حرب أوكرانيا جعلت كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها مهددة في الصميم. ماذا تستطيع دول البلطيق (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا) الضعيفة عسكريا والتي كانت جمهوريات سوفياتية عمله في حال نجح فلاديمير بوتين في أوكرانيا؟
هذا الخوف الأوروبي يفسّر الموقف الألماني الذي فاجأ الرئيس الروسي، خصوصا بعدما قررت ألمانيا إرسال مساعدات عسكريّة إلى الجيش الأوكراني وتخصيص مئة مليار يورو لإعادة بناء جيشها وتطويره. ليس الموقف الألماني الوحيد الذي يفترض التوقف عنده. خرجت سويسرا عن حيادها وقررت المشاركة في فرض عقوبات ذات طابع مصرفي على أتباع بوتين. من كان يتصوّر يوما أن سويسرا يمكن أن تتغيّر؟
تعيش أوروبا كلّ الهواجس التي هيمنت إبان الحرب العالميّة الثانية والسنوات التي سبقتها والتي شهدت صعود نجم رجل مريض اسمه أدولف هتلر. على أيّ أوروبي يستمع إلى فلاديمير بوتين يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها عن أوكرانيا وعن أمجاد الاتحاد السوفياتي وضْع يده على قلبه. لكنّ على كل أوروبي التمعّن أيضا بالسلوك الروسي في سوريا للتأكد من أنّ القارة القديمة تتعاطى في هذه الأيّام مع رجل لا علاقة له بالواقع.
ثمة حاجة إلى درس التجربتين الإيرانيّة والروسيّة في سوريا بغية معرفة لماذا أقدم فلاديمير بوتين على مغامرته الأوكرانيّة. لم يجد بوتين من يردعه في سوريا. مهدت له إيران الطريق للعودة بقوة إلى سوريا والمشاركة في الحرب المستمرّة منذ أحد عشر عاما على الشعب السوري. استعانت إيران بالروس في العام 2015 بعد فشل ميليشياتها في الدفاع عن نظام أقلّوي على رأسه بشّار الأسد ترفضه أكثريّة السوريين.
عندما يكتشف فلاديمير بوتين أن ما قام به في سوريا، بالتفاهم مع إيران، مرّ مرور الكرام، يبدو ذهابه إلى أوكرانيا طبيعيا. ما يجده الرئيس الروسي طبيعيا أكثر إجباره بشّار الأسد على الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في أوكرانيا وهما دونيتسك ولوغانسك. عشية الهجوم الروسي على أوكرانيا ذهب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى قاعدة حميميم الروسيّة قرب اللاذقية واستدعى بشّار إليها وأبلغه بقرار الهجوم. طلب منه الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين. بالفعل توجه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى موسكو وأعلن منها الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. تنظر موسكو إلى النظام السوري بصفة كونه مجرّد تابع لها.
منذ اليوم الأوّل للتدخلين الإيراني والروسي في سوريا جلس العالم يتفرّج. لم ينبس باراك أوباما ببنت شفة عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه صيف العام 2013. من هذا المنطلق، اعتبر فلاديمير بوتين أنّ كلّ شيء مسموح له في أوكرانيا في عالم يطلق فيه الحوثيون من اليمن صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، من إنتاج إيران، في اتجاه الأراضي السعوديّة والإماراتية من دون حسيب أو رقيب.
نعم، أوروبا مختلفة. التهديد الروسي لها، انطلاقا من أوكرانيا، يأخذ بعدا مختلفا. لكنّ المنطق يقول إنّ العالم واحد وإنّ المشكلة مع بوتين بدأت عندما تساهل معه هذا العالم في سوريا مثلما تساهل مع إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن…
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – صحيفة العرب