المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن هو واحد من المبعوثين الدوليين الذين ينطلقون في أداء مهماتهم من شيئين: نيات حسنة، وانطباعات سياحية عن البلد الذي يذهبون للعمل فيه.
ثلاثة مبعوثين سابقين فعلوا الشيء نفسه، رغم أن واحدا منهم كان جزائريا، فلم يفلحوا، لأنهم لم يروا الخيط الخفي الذي تتوقف عنده الأزمة، لتبقى أزمة إلى ما لا نهاية.
كان بوسع الأخضر الإبراهيمي، على كل ما يملك من خبرات ومواهب دبلوماسية، أن يقرأ عن سوريا أكثر مما كان بوسع سلفه كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي حمل ثقله الدولي معه لكي يتولى المهمة في فبراير 2012. وأكثر مما حصل خلفه ستيفان دي ميستورا بين سنتي 2014 و2018 رغم أن هذا الدبلوماسي السويدي – الإيطالي كان يجيد اللغة العربية وعمل في العراق لنحو ثلاث سنوات، الأمر الذي منحه بعض الخبرة في الاطلاع على حبائل السياسة وأقنعتها في سوريا.
الظروف تقلبت كثيرا بين مبعوث وآخر. وبقي الخيط الخفي ثابتا، لم يتجاوزه أحد.
كوفي أنان بدأ بالسعي لـ”تسهيل حل سلمي وكامل (للأزمة) يقوده السوريون أنفسهم ويستجيب للتطلعات الديمقراطية للشعب، عن طريق حوار سياسي واسع بين الحكومة السورية والمعارضة السورية في مجملها”. ووضع خطة مؤلفة من ست نقاط تبنتها “مجموعة العمل من أجل سوريا”، التي ضمت الدول الخمس دائمة العضوية وتركيا وقطر والكويت والعراق ومفوضية الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وأسفرت عن بيان “جنيف 1” الذي نص على “تأسيس مجلس حكم انتقالي يوفر مناخًا محايدًا يتيح التحول السياسي في البلاد، وأن يتمتع بكل الصلاحيات التنفيذية ويمكن أن يضم أفرادًا من الحكومة الحالية والمعارضة وبقية المجموعات بناءً على الاتفاق المتبادل”.
المفارقة الأهم هي أن النظام السوري وافق على هذه الخطة، كما وافق على كل خطة أخرى جاءت بعدها. ولم يفهم المبعوثون الدوليون كيف تعطلت.
أما الإبراهيمي فقد بدأ بفشل مباشر عندما أعلن هدنة في نوفمبر 2012، قبل أن تنهار بعد ساعات فقط. لم يعرف كيف، أو لماذا، رغم أن الجميع وافق عليها.
النجاح الأهم الذي حققه الإبراهيمي كان هو ذاته الفشل. إذ تمكن من عقد مؤتمر “جنيف 2” في يناير 2014 بحضور ممثلي النظام والمعارضة، ومباركة روسيا والولايات المتحدة لإطلاق مفاوضات. ولكنها جاءت مفتوحة وبلا جدول زمني ولا شروط، ما أدى إلى فشل المؤتمر، لأن المطالب والمخادعات ظلت تتضارب إلى ما لا نهاية، مما اضطر الإبراهيمي إلى الاستقالة في مايو 2014.
مهمة دي ميستورا ترافقت مع ظهور دولة داعش. وهو ما دفعه إلى التركيز على البعد الدولي والإقليمي لجهود الحل. فتفاوض مع الدول التي تعارض النظام من جهة، والدول التي تسانده من جهة أخرى، على أمل الوصول إلى تسوية تُرضي هذه الأطراف، ويتم فرضها على النظام والمعارضة.
وفي موازاة “مسار جنيف” الذي تعطل قبل أن يتضاءل إلى “مباحثات اللجنة الدستورية”، فقد ظهر “مسار أستانة” الذي ظل يزرع الفشل ويسقيه، جولة بعد جولة، حتى بلغ عدّاد الجولات 18 جولة. وظل الطرفان والضامنون، روسيا وإيران وتركيا، يشاركون في جولات يعرفون مسبقا أنها لا تعقد من أجل حل، وإنما من أجل أن تُعقد فقط، لكي لا يعود “مسار جنيف” ليُستأنف فينغص عليهم متعة الذهاب والإياب لأغراض صارت سياحية هي الأخرى.
الآن، يقول بيدرسن إنه حصل على “دعم صلب” من مجلس الأمن الدولي للمضي في اتجاه الحل على أساس “خطوة مقابل خطوة”.
ولو أنك سألته ما هي “الخطوة” الأولى، والتي تقابلها، فإنه سوف يبدأ مما لا قيمة فيه، ومما لا يوصل إلى بلوغ خط الأزمة الخفي.
ما يملكه بيدرسن من تصور هو “أن تحدد الأطراف المعنية، خطوات تدريجية، ومتبادلة، وواقعية، ومحددة بدقة، وقابلة للتحقق منها، تطبق بالتوازي” وصولا إلى تطبيق القرار الدولي 2254.
وقال إن ممثلي روسيا والولايات المتحدة أبلغوه أنهم “مستعدون للانخراط” في هذه المقاربة، وأنه “لا حل عسكريا للأزمة”، وهي عبارة ظل يكررها المبعوثون السابقون، سوى أنه أعاد صياغتها بالقول إن “مرحلة العمليات العسكرية انتهت، وأن لا طرف سيحتكر الخاتمة. وأن هناك شعورا بضرورة اختبار شيء جديد”.
ما هو الشيء الجديد؟
لا تحتاج أن تفكر كثيرا لتعرف لماذا وافق الروس على هذه المقاربة. ذلك أنها تبدأ من إجراءات إنعاش اقتصادي على أسس إنسانية تحفر نفقا من تحت عقوبات قانون قيصر.
ويعتقد بيدرسن “أن مشاريع الإنعاش المبكر ستنعكس إيجاباً على الظروف الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وخاصة في ترميم البنى التحتية المتهالكة كشبكات المياه والصرف الصحي وترميم أو بناء المشافي والمدارس، ويعززها إعادة الحياة لمشاريع سبل العيش وتمويلها مجدداً. وذلك بموجب خطة تضعها الأمم المتحدة مدتها 6 أشهر تنتج عمليات إنسانية أكثر قابلية للتنبؤ وأكثر استدامة”.
لا حاجة إلى الذهاب أبعد من ذلك. فالقصة هي قصة إغراءات اقتصادية، يتم في مقابلها تقديم إغراءات إنسانية من جانب سلطة دمشق، من قبيل إطلاق سراح معتقلين، أو الكشف عن مصير المغيبين.
الروس والإيرانيون الذين لا يملكون ما يمكنهم تقديمه لإعادة إعمار سوريا، لن يجدوا غضاضة في أن تقوم الأمم المتحدة بتمويل بعض أعمال الإنعاش.
ولكن، أين سوف تعود القصة لتتوقف من جديد؟
عندما تأتي كمبعوث دولي، من وجهة نظر سياحية، وتفترض أنك تتخاطب مع “نظام سياسي” لا يتصرف كعصابة، ومع معارضة لا تحاكي أحدا أكثر مما تحاكي “النظام” الذي تعارضه، فسوف يكون من الجائز تماما أن تطرح مشاريع حوار، على مسار وآخر، وحلولا يتوافق عليها الرعاة الدوليون، ومحادثات تستمر لعشرين سنة أخرى. ولكن إيّاك أن تصل إلى نقطة تقضي بإقامة دولة قانون في “حارة كل مين إيدو ألو”. وإياك أن تصل إلى نقطة يتم فيها إجراء انتخابات نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة. وإياك أن تسمح لأي سوري أن يزيح الشرطي الذي يقف على فمه ليحصي عليه أنفاسه.
سوريا بلد خاضع لسلطة مافيا، تمارس “السياسة” كقناع فقط. لديها حزب هو مجرد قناع، ولديها “مؤسسات” هي مجرد خدعة، ولديها جيش وأجهزة أمن هي مجرد أدوات قمع، تحمل أسماء مزيفة، تشبه أسماء نظائر موجودة في دول أخرى، لكنها مجرد غطاء وخدعة. ويمكن لهذه المافيا أن تأخذ وتعطي معك في شؤون الاتفاقات إلى ما شاء لك الهوى. ولكن لا تقترب من حياض سلطتها. أما “السلطة” نفسها فهي ليست سوى حقها في استعباد الناس.
“الشعب” السوري من وجهة نظر هذه المافيا هو نفسه قناع آخر، يخدم قناع “السياسة” وقناع “النظام” وكل التمثيليات الهزلية التي تترافق مع هذا النوع من الخداع الشامل.
الخداع الكلي، هو الذي يجعل سوريا بلدا لا شيء فيه حقيقيا، وكل الشخوص الذين تتخاطب معهم هم ممثلون يؤدون أدوارا لا علاقة بها بالواقع. إنه بلد وخشبة مسرح، تجري فيه تمثيلية تحمل أسماء متشابهة، إلا أنها ليست هي الواقع على الإطلاق. كل مَنْ تراه هو “زومبي”، يتحرك بقواعد ما تفرضه المافيا.
هذه المافيا هي الواقع الوحيد في سوريا. وآخر ما يمكنها أن تسمح به هو بناء ظروف تؤدي إلى توقف المسرحية. لأن “الشعب”، في تلك الحال، سوف يعود ليتكشف أنه شعب، وأن له حقوقا، وأن لهذه الحقوق ضوابط قانونية، وأن نظامه السياسي يعمل بموجب دستور. وأن “الحزب الحاكم” هو “حزب” وليس فريق كرة قدم يفوز في جميع المباريات، لأنه يلعب من دون منافس.
يمكن للسيد بيدرسن أن يرتدي القناع، فيقترح خطوات تدريجية ظنا منه أنه يتعامل مع “نظام” سياسي يمكنه أن يتغير ليصبح نظاما أكثر استقرارا. إلا أن سلطة المافيا سوف تجبره على التخلي عما يحاول أن يخدع به نفسه.
هذه المافيا كانت مستعدة، وهي ما تزال مستعدة، لقتل مليون إنسان آخر، ولتشريد كل الذين تكفلت بتشريدهم، ولتدمير كل المدن التي رفضت المشاركة في أداء دورها في المسرحية، كما يقررها المخرج زعيم العصابة. وهي لن تسمح بأن تتنازل “بالسياسة” عما لم تسمح به بالحرب.
لا يوجد نظام سياسي (بهذا التعريف) يمكنه أن يفعل كل ما فعله “النظام السوري”. لماذا؟ لأنه بمنتهى البساطة ليس نظاما. إنه سلطة عصابة، تتخذ من كل شيء في هذا البلد غطاء للتمويه عن طبيعتها الحقيقية.
هذا هو الخط الذي لم يره مبعوثو السياحة لدى الأمم المتحدة. وحالما يكتشفون عجزهم عن بلوغه، يستقيلون.
علي الصراف – كاتب عراقي – صحيفة العرب