ماذا سيكون شعور المرء لو أنه عاش في جوار مصيبة؟ كيف سوف يتعامل معها، وهي تلحق به ضررا، في الحالتين معا: إذا قويت، وإذا هزلت؟
ولأنها جار جغرافي وتاريخي عنيد، فلا سبيل للنجاة من أضرارها إذا تواصلتَ معها أو قاطعتها.
تلك هي حالنا مع تركيا. العثمانيون عندما كانوا أقوياء، استعمرونا لقرون، وأحاطونا بالفقر والتخلف وطبائع الاستبداد، فضلا عن المجازر الوحشية التي لحقت بالملايين من البشر. وكان الخنوع حيالهم مشروطا بأنهم مسلمون، وإن التمرد عليهم “حرام شرعا”.
وعندما ضعفت الإمبراطورية العثمانية، بعوامل من داخلها بالدرجة الأولى، وتحت وطأة جبال من الديون التي تراكمت على السلطنة حتى أصبحت “رجل أوروبا المريض”، فقد جاز اقتسام إقطاعياتها بين المستعمرين الجدد، فرنسا وبريطانيا، لتبقى الولايات العربية نهبا لكل وجه من وجوه التعسف الغربي.
الحرب ضد السلطنة العثمانية اقتضت إطارا أيديولوجيا جديدا، قوميا، لكي يمكن الإفلات من ربقة الولاء لسلطان جعل الإسلام ذريعة لفرض التبعية على المسلمين، وذلك حتى بعدما ارتفعت رايات الطورانية التركية على حساب الإسلام نفسه.
وبالكاد، بعد نحو ما يقرب من نصف قرن، نشأت حركات تحرر ضد الاستعمار، كانت هي بدورها انفعالية وعشوائية في معظم أحوالها، فأنشأت أنظمة تجريبية، احتاجت عقودا لكي تدرك أنها غير مستقرة وأن أسسها هزيلة، وأن معاييرها غير متناسقة، لا دينيا ولا أيديولوجيا، وغير قادرة حتى على التقليد. فالعثمانيون الذين جعلوا من الجهل والأمية سبيلا لقيادة القطيع الراضي بمشيئة الخليفة المسلم وأقداره، لم يتركوا لضحاياهم الفرصة ليعرفوا العالم الخارجي كيف هو، أو كيف يعيش أو ما هي مقومات نهضته، حتى صحوا فجأة على مدافع نابليون تدك حصونهم وبلداتهم.
كانت تلك المدافع هي عامل “الصحوة” الأول بعد الإغفاءة العثمانية التي استغرقت نحو ألف عام.
لم نملك ساعتها أفضل من إبراهيم اليازجي ليقول لنا:
تَنَبَهوا وَاستَفيقوا أَيُّها العَرَب
فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ
فيمَ التَعلُّلُ بالآمالِ تَخدَعَكُم
وَأَنتُم بَينَ راحاتِ الفَنا سلُبُ
اللَّهُ أَكبرُ ما هَذا المَنام فَقَد
شَكاكُمُ المَهد وَاِشتاقَتكُمُ التربُّ
كَم تُظلمون وَلَستُم تَشتَكون وَكَم
تُستَغضَبونَ فَلا يَبدو لَكُم غَضَبُ
ألِفتُم الهون حَتّى صارَ عِندَكُمُ
طَبعاً وَبَعضُ طِباعِ المَرءِ مُكتَسَبُ
وفي الواقع، فما كان ذلك إلا نداء للوقوف بوجه عالم الظلمات العثماني. ولكننا لم نكسب منه شيئا بالوقوع تحت أسر مستعمرين، استوجبت مواجهتهم أن يقول محمد مهدي الجواهري في البريطاني منهم:
عادت تركيا لتضعف. اقتصادها يقف على حافة هاوية. والتضخم يتجاوز 20 في المئة، والعملة التركية التي سبق أن كانت سلة منها لا تكفي لشراء قطعة جبن، عادت لتنهار حتى خسرت أكثر من 45 في المئة من قيمتها في غضون أقل من ستة أشهر
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة
أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي
مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم
وأنَ البغيَّ الذي يدعي
من المجد ما لم تَحُزْ “مريم”
ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ
وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجم
كما استوجبت أن يقول أحمد شوقي في الفرنسي منهم، وهو يخاطب دمشق:
سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ
أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ
وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا
قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ
رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا
أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ
إِذا ما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ
يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا
وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
تركيا التي سلمتنا إلى الاستعمار الفرنسي والبريطاني، لم تسلم هي نفسها، فتقلبت بين دكتاتورية وأخرى، وانقلاب عسكري وآخر، حتى استقرت بيد رجب طيب أردوغان، الذي أصبح نظامه هو الأطول عمرا في تاريخها المعاصر، بين رئيس للوزراء ومن ثم رئيس يريد أن يبقى في سلطته حتى العام 2023.
ما أن أصبح أردوغان قويا، حتى قلب المنطقة من جديد، وحاول إعادة بعث الخرائط العثمانية، ومد نفوذه إلى ليبيا، واحتل جزءا من شمال سوريا، وأقام فيها مستوطنات مرتزقة، وقلص واردات العراق من الفراتين، وأقام قواعد عسكرية في شمال العراق يزورها وزير دفاعه من دون إذن ولا تبليغ للحكومة في بغداد. بل، ولقد جند أردوغان تيارا للإسلام السياسي امتد على طول المسافة من مصر إلى تونس. وظل “الإسلام” هو عمامة الخلافة الأردوغانية الجديدة، ولو تحالفت مع قوميين متشددين، أو طورانيين جدد.
عادت تركيا لتضعف. اقتصادها يقف على حافة هاوية. والتضخم يتجاوز 20 في المئة، والعملة التركية التي سبق أن كانت سلة منها لا تكفي لشراء قطعة جبن، عادت لتنهار حتى خسرت أكثر من 45 في المئة من قيمتها في غضون أقل من ستة أشهر.
ضعفُ أردوغان لا يمكنه، بحسب هذا التاريخ، إلا أن يكون مصدر شر جديد، مثله مثل قوته. فتركيا إذا عادت إلى دوامة الفوضى، فإن جوارها لن يكسب إلا ارتدادات فوضى مماثلة. وبحسب التاريخ نفسه، فإن تراجع تركيا يصب في صالح إيران. وهذه الأخيرة لا تحتاج من أجل المزيد من التمدد وفرض النفوذ أن تملك قنبلة نووية.
الإمبراطورية الصفوية لم تكن تملك قنبلة نووية، ولكنها كانت تملك قوة “غلمان” يجندهم الشاه الصفوي لخدمته، فكانوا، كما عرفهم العراق، أكثر ضررا بالفعل من تفجير قنبلة نووية. فهم قتلوا من العراقيين أكثر مما قتلت قنبلتا هيروشيما وناكازاكي، كما شردوا أكثر مما شردتا، وأحاطوا العراق بالخراب والفساد والفوضى أكثر مما تعرضت له اليابان.
السؤال الكبير: هل ننجد أردوغان ليقف على قدميه؟ وإذا فعلنا ليقوى، فمن ذا الذي يُنجينا من خرائطه، ومن نزعاته التوسعية؟
وإذا تركناه يضعف، فما الذي يحيطنا بالأمن من غلمان الولي الفقيه إذا تمددوا، وغلظت وحشيتهم كما عرفناها في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
تركيا جار، ليت أنه ما كان لنا جارا. ومثلها إيران التي ليت أنها لم تكن جارا.
أفهل لم يقدم التاريخ درسا لبدائل تكبح الجارين؟
بلى، قدّم. ولكن هات مَنْ يجرؤ فيتقدم.
علي الصراف – كاتب عراقي – صحيفة الشرق الأوسط
مشاركة المقال عبر