أثار غياب موقف تركي من توقيف فرنسا لمن قالت إنه مشتبه به في قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، قبل أن تتراجع وتطلق سراحه، تساؤلات حول ارتباط هذا الصمت بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الدوحة والرسائل التي قد يكون تركها وراءه للضيف الموالي على العاصمة القطرية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وقالت أوساط سياسية خليجية تابعت زيارة أردوغان إن صمت أنقرة التام عن إيقاف سعودي وربط اسمه بقضية خاشقجي هو إحدى رسائل الرئيس التركي التي عليه أن يوجهها إلى ولي العهد السعودي، وعنوانها الرئيسي هو الهدوء والصمت والسعي لتناسي الخلافات والتفكير في بناء الثقة مع المملكة التي لا تزال الجهة الإقليمية الوحيدة التي لم تغفر له إساءاته السابقة، بحسب صحيفة العرب.
وأشارت هذه الأوساط إلى أن عدم التعاطي مع خبر كان في السابق يوفر مادة ثمينة لأنقرة ووسائل إعلامها للهجوم على المملكة وقيادتها هو رسالة من أردوغان مفادها “إني كما كنت مؤذيا سياسيا ومشكلة إعلامية بالنسبة إلى السعودية، من الممكن أن أكون مفيدا”، لافتة إلى أن الرئيس التركي أراد أن يثبت حسن نواياه، وهو ينتظر ما سيسمعه الأمير محمد بن سلمان من القطريين بشأن رغبة تركيا في التقارب وتعهّدها بالقطع مع الماضي.
ولم يحصل الرئيس التركي على فرصة لنقل هذه الرسائل مباشرة إلى ولي العهد السعودي بعد تسريبات عن سعيه لعقد لقاء بينهما في الدوحة، لكن التفسيرات الرسمية لصعوبة اللقاء تقول إن موعد الزيارتين إلى الدوحة من البداية كان منفصلا، وإن كانت تقارير ترجح أن الأمير محمد بن سلمان لم يكن متحمسا لهذا اللقاء، ما يعني أن الرياض تعتقد أن موعد التقارب مع أنقرة لم يحن بعد، وأن على أردوغان بناء الثقة بخطوات ومواقف أكثر وضوحا، وهو ما بدأ به فعليا بالصمت تجاه موضوع توقيف السعودي في باريس.
ويعتقد متابعون للشأن الخليجي أن أردوغان يريد أن يلفت نظر السعوديين إلى أن التقارب مع تركيا والتباعد عنها فيهما الكثير من المطاطية والاعتبارات ولا يشبهان العلاقة مع إيران؛ فتركيا وإن كانت تستخدم الإخوان سياسيا، إلا أنها تتدخل كدولة وتمتنع كدولة مما يجعل قرارها مباشرا ومركزيا على عكس حالة عدم انضباط الميليشيات السائدة في الجانب الإيراني، وهو ما يعني أن الرئيس التركي بيده قرار وقف الحملات الإعلامية في قضية خاشقجي وغيرها، والتوجيه بالإشادة بالمملكة وقيادتها.
ومن الواضح أن الزيارة التي قام بها الرئيس التركي إلى قاعدة بلاده العسكرية في الدوحة، وإطلاقه تصريحات مشيدة بالروابط التاريخية مجدِّدا رغبة بلاده في تعميق التعاون مع دول المنطقة، يحملان رسالة مفادها “إننا باقون في الخليج، فتعاملوا مع الأمر واستفيدوا منه لصالحكم مع إيران”، وأنه إذا كانت طهران تريد الهيمنة وفرض أذرعها على دول المنطقة فإن أنقرة تبحث عن المصالح.
ويراهن أردوغان على أن السعودية يمكن أن تتعامل بإيجابية مع الوضع الجديد الذي يؤشّر على جدية تركية في تسوية أزمات الماضي، خاصة وأن جزءا من العداء كان بسبب مصر، وها هي مصر ترتب أمورها بهدوء مع تركيا.
لكن التفاؤل التركي يبقى مشروطا بما سيعلق به ولي العهد السعودي على رسائل أردوغان المعلنة والمخفية، وذلك خلال لقائه بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ولا شك أن الكلام سيكون واضحا وصريحا في الدوحة، فقد سبق وأن عبرت الأطراف كل الحدود في العداء والملاسنة، وأن السعودية لم تعد تتعامل مع حسن النوايا ولا الوعود المعلنة، وهي تريد أن تلمس عمليا تبدلا في مواقف أنقرة ورئيسها وإعلامها والمجموعات التي ترتبط بها في المنطقة.
وهناك شكوك لدى السعوديين في أن التهدئة التي يظهرها كلام أردوغان هي تهدئة ظرفية بسبب حاجة تركيا الملحة إلى المساعدات المالية العاجلة للخروج من أزمتها، لكن الموقف يمكن أن ينقلب مئة وثمانين درجة فيما لو أن السعودية لم تبد تحمّسًا لعودة الدفء إلى العلاقات الثنائية، وهو ما يعني استمرار الانكماش في المعاملات الاقتصادية.
ولعل رد الفعل التركي المنعدم تقريبا على توقيف السعودي في باريس مؤشر إيجابي، إلا أنه يبقى ورقة تُستدعى حيثما تدعو الضرورة إليها، أي أن أنقرة يمكن أن تعود لتحريك ورقة خاشقجي في أي وقت إذا لم تحصل على ما تريده.
ويرى المراقبون أن السعودية تريد اختبار مدى جدية أردوغان في التوقف عن المواجهة الاستراتيجية تجاه المملكة، والسعي لمزاحمتها في القضايا الإقليمية، وخاصة لعب دور المنافس على البعد الديني الرمزي في العالم الإسلامي؛ مثال ذلك قمة كوالالمبور التي تزعمت تركيا عقدها أواخر 2019 من أجل أن تكون قوة إسلامية بديلة لضرب نفوذ السعودية والمسّ من زعامتها للعالم الإسلامي.
وتتهم أوساط السياسة والمال والأعمال في تركيا أردوغان بأنه أساء اللعب بورقة خاشقجي، وأن ذلك أضاع على البلاد فرصة بناء علاقات استراتيجية مع الرياض لتحريك العلاقات الاقتصادية المتوقفة بشكل شبه كامل بين الجانبين، وهو الأمر الذي يسعى لتداركه حاليا خاصة في ظل نجاح المعارضة في الضغط عليه بورقة الأزمة الاقتصادية والتلويح بورقة الانتخابات المبكرة، وهو أمر ليس في صالحه ولا في صالح حزبه العدالة والتنمية.
مشاركة المقال عبر