تضغط هيئة تحرير الشام وحركة طالبان لنيل شرعية دولية وتعزيز سلطتهما نظير القيام بدور شرطي الإرهاب الدولي ودعم خط التعاون بينهما لتحجيم الجماعات الجهادية الأجنبية وكبح هجمات تنظيم الدولة الإسلامية العابرة للحدود في المنطقة الممتدة من سوريا إلى أفغانستان. ورغم الإشارات التي يرسلها الحليفان إلى المجتمع الدولي بشأن الإيفاء بتلك الالتزامات مازالت الكثير من الدول تخشى منحهما اعترافًا دوليًا جاهزًا ومتساهلًا.
لم يتوقف صعود حركة طالبان في أفغانستان إلى السلطة عند إرسال العديد من الإشارات إلى التنظيمات التي تشاركها أفكارها حول العالم بشأن مشاريع الهيمنة والتمكين، وبرهن تطور العلاقات بين الحركة وهيئة تحرير الشام في سوريا على نشوء شكل جديد من التعاون والتنسيق بين الجماعات الجهادية ذات الطموحات المحلية.
وجد قادة الكيانين الجهاديين في كل من أفغانستان وسوريا أن تطوير التنسيق بينهما ضروري لتعويض برودة أو انعدام العلاقات مع الدول والقوى المؤثرة دوليًا وإقليميًا، في مسعى لتشبيك نماذج حكم جهادي محلي لا غنى للقوى الراغبة في الحصول على مقعد في المسرح الدولي عن التعاطي معها بإيجابية حتى لو لم تمنحها رسميًا شرعية الاعتراف بها.
تمكنت الحركة والهيئة من تحقيق التمكين، وإن بنسبة أقل كثيرًا في حالة سوريا، من خلال التكتيكات الإرهابية. وسبقت الأخيرة بتشكيل حكومة أسمتها حكومة الإنقاذ تدير مناطق سيطرتها في الشمال السوري، ولحقتها طالبان بعد الهيمنة على السلطة، لكنهما تدركان أن القوة المسلحة وحدها لا تكفي للبقاء في الحكم، وأن السيطرة المستدامة تتطلب اختراق عزلتهما عبر تعاون في ملفات تهم العديد من القوى على الساحة، كنقطة انطلاق لممارسة بعض المهارات السياسية والدبلوماسية في الداخل والخارج، ما يفتح إمكانية قبول هذا الشكل الجديد من حكم الجهاديين المحليين.
وكشف أبومحمد الدمشقي، وهو قيادي شرعي في هيئة تحرير الشام، عن سفر وفد من الهيئة إلى أفغانستان عبر مطار هاتاي التركي مؤخرا، حيث اجتمع مع قيادات في طالبان وطرح خططا شاملة لتطوير العلاقات بين الكيانين خاصة في المجالين العسكري والاقتصادي، فضلًا عن تفعيل التنسيق في العديد من الملفات المتعلقة بحركة المقاتلين من أفغانستان إلى سوريا -والعكس بالعكس- وكيفية ضبطها بما يحقق مصالح الطرفين.
منافع متبادلة
تهدف هيئة تحرير الشام من وراء تقوية وتطوير علاقاتها مع طالبان إلى خلق متنفس لها وتمهيد طريق يوصل طلباتها إلى المجتمع الدولي بعد أن باتت أغلب دول العالم تعترف بسلطة طالبان، ولو بشكل غير رسمي، فضلًا عن استغلال التقارب التركي بين الكيانين وجعله نافذة تمنح الهيئة المتشوقة لعلاقات علنيّة مع العالم فرصة للتواصل مع المجتمع الدولي.
أما طالبان فما يَهُمّها بالدرجة الأولى من تطوير هذه العلاقات مع الهيئة الناشطة والمسيطرة بقوة الأمر الواقع هو ضبط حركة كل من المقاتلين المتمردين على سلطة أبومحمد الجولاني وعناصر داعش لئلا يُسمَح لهم بالانتقال إلى أفغانستان، حيث يحتدم الصراع المسلح بين طالبان الباحثة عن أدوات تكرس بها حكمها وتنظيم داعش – خراسان المهتم بتجميع صفوفه وإعادة بناء هياكله التنظيمية المشتتة ليصبح ندًا قويًا للحركة الأفغانية.
تزداد أهمية التعاون والتنسيق مع هيئة تحرير الشام بالنسبة إلى طالبان مع كشف مصادر استخبارية روسية وفق ما أعلنه وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو أن مسلحين منتمين إلى داعش بدأوا ينتقلون من ليبيا وسوريا إلى أفغانستان فور هيمنة طالبان على السلطة في كابول، حيث يخططون لجعلها تحت حكم طالبان نقطة انطلاقهم إلى آسيا الوسطى وجعل داعش هو الرقم الجهادي الصعب في تلك المنطقة وفي العالم.
تُعَاكِس خططُ داعش اعتمادًا على خدمات مقاتليه النازحين من الشام إلى أفغانستان خططَ طالبان التي لديها نفس الطموح، لكن ذلك غير معلن حتى لا تثير حفيظة جوارها الإقليمي، مثل الصين وروسيا؛ حيث تطمح الحركة لإعادة هيكلة تنظيم القاعدة ودفعه إلى تغيير قيادته التقليدية واستعادة قوته ليكون ذراعها الخارجية الناشطة في آسيا الوسطى بالدرجة الأولى.
من ترغب طالبان في عودتهم ليكونوا عونًا لها بالداخل في مواجهة خصومها ومنافسيها وذراعًا لها في الخارج تضغط بها على دول جوارها الإقليمي هم عناصر القاعدة الذين لا ترغب فيهم هيئة تحرير الشام وشنت ضدهم حملات قمع ممنهجة، ومن نجوا من الضربات التي نفذتها الولايات المتحدة بواسطة الطائرات المسيرة، وهؤلاء جميعًا لديهم ارتباطات تاريخية بالشبكة الأفغانية لتنظيم القاعدة في أفغانستان.
وتتشارك هيئة تحرير الشام مع طالبان هذه الرغبة التي ستزيح عن كاهلها عبء تنظيم حراس الدين الموالي لتنظيم القاعدة المركزي والذي انتقل أعضاؤه في الأصل من أفغانستان إلى سوريا بتوجيه من أيمن الظواهري زعيم القاعدة للمساعدة في تعزيز الفروع المحلية للتنظيم، وهو ما تحول لاحقًا إلى انشقاق وصراع مع هيئة تحرير الشام التي تخلت عن التنظيم الأم وركزت على تشكيل سلطة محلية مستقلة.
مصالح مشتركة
طلبت حركة طالبان لنجاح هذه الهجرة الجهادية إلى أفغانستان أن تكون في إطار تحقيق المصلحة المشتركة بينها وبين هيئة تحرير الشام والمتمثلة في انتقال عناصر القاعدة المغضوب عليهم من الهيئة والمُرحب بهم من طالبان بالتوازي مع منع انتقال عناصر داعش وتنقية كل المكونات التي تضطهدها الهيئة وأعلنت عن رغبتها في الانتقال إلى أفغانستان مُبدية سعادتها بانتصار طالبان وتخفّفها من أي ولاءات داعشية تظهر فقط الإشادة بطالبان لحين انتقالها، وبعدها يتضح الولاء الحقيقي لداعش، ما يمثل مشكلة مركبة لطالبان في الداخل الأفغاني ومع دول الجوار.
يرجع حماس قادة طالبان لنجاح هذا التعاون مع هيئة تحرير الشام إلى خشيتهم الشديدة من نزوح موسع وممنهج لقادة وعناصر داعش الأجانب لاسيما الآسيويين الذين خاب أملهم في الشام منتقلين إلى أفغانستان، قاصدين الأراضي التي لا تزال خارج السيطرة المركزية في نورستان والمناطق النائية في بدخشان وغيرها من المحافظات.
تنظر الجماعتان إلى السِمات المشتركة بينهما كحافز على تدشين تحالفهما الناشئ بنجاح؛ فهيئة تحرير الشام التي تسيطر على المنطقة الشمالية تسعى لاعتراف دولي بها من بوابة إظهار الاعتدال السياسي القومي وتقديم نفسها كشريك فاعل في مكافحة الإرهاب من سوريا، وتريد أن تكون قريبة من طالبان ووثيقة الصلة بها كي تصل نهائيًا إلى ما وصلت إليه، متخلية عن أي ارتباطات مع داعش والقاعدة، وهي مثل طالبان تسعى لكبح هجمات داعش والتنظيمات الجهادية العابرة للحدود.
ورغم الإشارات التي أرسلتها الجماعتان إلى المجتمع الدولي بشأن التزامهما بعدم السماح لجهاديين في بلادهما ومناطق سيطرتهما بأن يستهدفوا الولايات المتحدة أو أيًا من الدول الأوروبية وعدم توفير ملاذ ومعسكرات تدريب لمقاتلين يعتنقون الجهادية العالمية وينوون مهاجمة الغرب إلا أن كثيرين لا يزالون يخشون منحهما اعترافًا دوليًا جاهزًا ومتساهلًا.
شُرطي الإرهاب الدولي
تضغط الجماعتان بخط تعاون بينهما ممتد من سوريا إلى أفغانستان ومن شأنه الإسهام بشكل مضاعف في تقليص وتحجيم الجماعات الجهادية الأجنبية وكبح هجمات داعش، في وقت لا توجد فيه سياسات فاعلة واستراتيجيات مضمونة النتائج على الأرض لمكافحة الإرهاب المعولم وإبقاء التهديد الإرهابي العابر للحدود في أفغانستان والشام تحت السيطرة.
هناك ثلاث من القوى الرئيسية ترغب هيئة تحرير الشام في فتح قنوات حوار وتعاون معها فضلًا عن رغبة طالبان في تقوية العلاقات مع كل منها، وهي الولايات المتحدة والصين وروسيا.
زالت البنية الاستخباراتية التي اعتمدت عليها واشنطن طوال عقدين لمجابهة هجمات التنظيمات الجهادية وخططها المستقبلية وباتت تعتمد بشكل رئيسي على طالبان وجهودها على الأرض لتقليص هذا الخطر، ولذلك تتحمس هيئة تحرير الشام للدخول كشريك في المجال لتترسخ نماذج محلية متعاونة تدعم مختلف القوى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي روجت لقناعة مفادها أنه ليس هناك أفضل من الإرهابيين السابقين لدرء أخطاء الإرهابيين الحاليين.
قد تكون أمام هيئة تحرير الشام فرصة تخفيف الضغوط العسكرية التي تمارسها ضدها روسيا وقوات النظام السوري عبر اختراق الحالة الأفغانية من بوابة القوة الصاعدة الجديدة طالبان، وهذه الأخيرة تنتظر منها موسكو عدم فتح نافذة للجماعات الجهادية على حدود أفغانستان الشمالية، حيث خطط أبومحمد الجولاني لمساومة روسيا من خلال طالبان بين استقرار آسيا الوسطى واستتباب سلطته في الشمال الغربي لسوريا.
ولم تغب نقاط الضعف الاستخباراتية حيال الأوراق المشرعة من قبل طالبان وهيئة تحرير الشام عن الصين التي تخشى تنامي نشاطات مقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني الذي يسعى للانفصال في إقليم شينغيانغ شرق البلاد وإقامة دولة إسلامية.
ما يقوي موقف هيئة تحرير الشام وطالبان بالنظر لتأثيرات تلك الورقة تحديدًا هو أن الحزب التركستاني القريب من القاعدة طور قدراته من خلال مشاركته في الحرب السورية وله حضور ووجود في أفغانستان.
وفي الوقت الذي لا تملك فيه القوى الكبرى قدرات كافية لمكافحة الإرهاب في أفغانستان ومع غياب قاعدة إقليمية آمنة في الجوار المباشر لأفغانستان وتداخل وتشابك أوراق اللعبة الجهادية بين أفغانستان والشام، تطرح هيئة تحرير الشام وطالبان اسميهما كحل مزدوج متاح لهذه المعضلة، ليتسنى لهما تعزيز سلطتهما وضمان شرعية فعلية أو ربما توفير مساعدات مادية نظير القيام بدور شرطي الإرهاب الدولي.
هشام النجار – صحيفة العرب
مشاركة المقال عبر