بعد مخاض، توصل فريق إدارة الرئيس جو بايدن إلى صيغة نهائية لـ«أولويات أميركا» في سوريا بعد مراجعة داخل المؤسسات في واشنطن منذ بداية العام، تتضمن خمسة أهداف رئيسية معلنة وملحقاً، تشمل البقاء في شمال وشرق سوريا والحفاظ على وقف إطلاق النار ولا تشمل «إخراج إيران من سوريا» كما كان الحال مع إدارة الرئيس دونالد ترمب.
وحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن الأولويات الأميركية التي تحدث عنها مسؤولون أميركيون في جلسات مغلقة في واشنطن قبل أيام، تشمل: «أولاً، البقاء في شمال شرقي سوريا واستمرار هزيمة داعش. ثانياً، المساعدات الإنسانية عبر الحدود. ثالثاً، الحفاظ على وقف إطلاق النار. رابعاً، دعم المحاسبة وحقوق الإنسان والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. خامساً، دفع عملية السلام وفق القرار 2254». يضاف إلى ذلك حرص واشنطن على دعم الدول المجاورة لسوريا واستقرارها.
وتعتبر هذه الصيغة تطوراً للأولويات التي ذكرها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الاجتماع الوزاري على هامش مؤتمر التحالف ضد «داعش» في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، إذ أنه تحدث وقتذاك عن ثلاث «أولويات»، هي: المساعدات الإنسانية، ومحاربة «داعش»، ووقف النار، على أمل دفع عملية السلام.
– تطبيق الأولويات
وتفسر هذه الأولويات، التي أنجزت بعد الانتهاء من المراجعة الداخلية، سياسة فريق بايدن في سوريا ونقاط تركيزها الدبلوماسي خلال الأشهر العشرة الماضية، إذ أن قائد القوات الأميركية كينيث ماكينزي زار سراً شمال شرقي سوريا بعد فوضى الانسحاب من أفغانستان، لإبلاغ «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) أن أميركا باقية في شرق الفرات، ولن تكرر النموذج الأفغاني. كما ضغطت إدارة بايدن على الرئيس رجب طيب إردوغان كي لا يشن عملية عسكرية تؤثر على قتال «داعش» واستقرار «قسد». ويسود انطباع بأن القوات الأميركية باقية إلى نهاية ولاية بايدن.
وبالنسبة إلى ملف المساعدات الإنسانية، قاد فريق بايدن حواراً سرياً مع مبعوثي الرئيس فلاديمير بوتين في جنيف، لضمان تمديد القرار الدولي في يوليو (تموز) الماضي.
وعقد مسؤول الشرق الأوسط بريت ماكغورك ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فرشنين والمبعوث الرئاسي الكسندر لافرينييف، جولة ثالثة في جنيف يوم الأربعاء، لضمان تمديد القرار لستة أشهر أخرى في بداية العام المقبل، وتنفيذ أميركا التزاماتها فيما يتعلق بـدعم «التعافي المبكر» والمساعدات «عبر الخطوط». كما تقترب إدارة بايدن من تقديم دعم مالي للاستقرار في شمال شرقي سوريا وشمالها الغربي.
دبلوماسياً، واصلت إدارة بايدن إصدار بيانات تدعم وقف إطلاق نار شامل في سوريا وتفعيل العملية السياسية والإصلاح الدستوري بموجب القرار 2254، وقيامها مع فرنسا وبريطانيا ودول غربية بتشجيع المعارضين السوريين لإثارة ملف المحاسبة والمساءلة وحقوق الإنسان. وفي نهاية يوليو (تموز) الماضي، أصدرت وزارة الخزانة قائمة عقوبات جديدة تخص انتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب، وتشمل أطيافاً واسعة من الأطراف السورية، وليس فقط الحكومة والموالين لها، كما أن الوزارة أصدرت أو أكدت وجود استثناءات من «قانون قيصر»، وأبلغت مصر والأردن ولبنان أن «أنبوب الغاز العربي» الذي سيمر في سوريا لن يكون مشمولاً بقانون «قيصر»، شرط ألا يتضمن تقديم أموال لدمشق، ولا التعامل مع شخصيات أو كيانات مدرجة على قائمة العقوبات.
– إيران… الحاضر الغائب
ويبدو أن المهم في هذه الأولويات هو الأمور غير الموجودة التي حذفت من قائمة ترمب، إذ أن بايدن لم يعين حتى الآن مبعوثاً للملف السوري من الطراز السياسي، كما كان الحال مع السفير جيمس جيفري وأسلافه، فبقي الملف ممسوكاً من قبل ماكغورك، مع إبعاد دور وزارتي الدفاع والخارجية، وسط تساؤلات عما إذا كانت الأمور ستتغير بعد تسلم باربارا ليف منصبها الرسمي الرفيع في الخارجية.
كما أن فريق بايدن لم يقم بقيادة حملة دبلوماسية وسياسية مع الدول العربية لمنع التطبيع مع دمشق، وإن كان دبلوماسيون أميركيون أبلغوا محاوريهم العرب بنقطتين: أميركا لا تشجع التطبيع ولن تقوم به، لكن يجب ألا يكون التطبيع مجانياً، مع تذكير بـ«قانون قيصر»، باعتباره تشريعاً من الكونغرس وليس قراراً تنفيذياً. ونُقل عن جيمس جيفري، الممثل الخاص لإدارة ترمب إلى سوريا، قوله في واشنطن: «لم يطلب من أي منهم» الامتناع عن الحديث إلى الرئيس بشار الأسد من قبل كبار المسؤولين الأميركيين. وعليه، «شعرت دول عربية أن لديها ضوءاً أخضر للتطبيع مع الأسد».
وليس هذا هو التغيير الوحيد، بل هناك أمور جيوسياسية أخرى تخص الموقف العلني من الوجود الإيراني، تعتبر نقلة كبيرة قياساً إلى سياسة ترمب، الذي وضعت إدارته «استراتيجية لسوريا»، صاغها وزير الخارجية مايك بومبيو، بدعم من جيفري ونائبه جويل روبرن، وتشمل: «أولاً، هزيمة داعش، ومنع عودته. ثانياً، دعم مسار الأمم المتحدة لتنفيذ القرار الدولي 2254. ثالثاً، إخراج إيران من سوريا. رابعاً، منع النظام من استعمال أسلحة الدمار الشامل والتخلص من السلاح الكيماوي. خامساً، الاستجابة للأزمة الإنسانية ورفع المعاناة عن الشعب السوري داخل البلاد وخارجها».
كما أن إدارة ترمب وضعت ستة شروط مسبقة لـ«التطبيع» مع دمشق، هي: «أولاً: وقف دعم الإرهاب. ثانياً: وقف دعم الحرس الإيراني و«حزب الله». ثالثاً: عدم تهديد دول الجوار. رابعاً: التخلي عن أسلحة الدمار الشامل. خامساً: العودة الطوعية للاجئين والنازحين. سادساً: مكافحة مجرمي الحرب».
وصاغ فريق ترمب «أدوات ضغط» لتحقيق ذلك وإبقاء دمشق في «صندوق العزلة» بالتنسيق مع حلفاء أميركا العرب والأوروبيين، تشمل: «الوجود الأميركي شرق الفرات وقاعدة التنف ومنع وصول دمشق للثروات الاستراتيجية، والتأثير الدبلوماسي عبر منصة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، العقوبات الاقتصادية و«قانون قيصر»، وعرقلة التطبيع العربي أو الأوروبي مع دمشق، ودعم استخباراتي ولوجيستي للغارات الإسرائيلية، ووجود تركيا شمال غربي سوريا، ووقف إعمار سوريا ومساهمة دول عربية وأوروبية قبل توفر شروط».
لكن ماكغورك لديه قناعة مختلفة تقوم على ضرورة أن تكون الأهداف الأميركية منسجمة مع أدواتها، وقدرتها على استخدام هذه الأدوات، ومدى استعداد موسكو للتعاطي مع هذه الضغوط. كما أن فريق بايدن حريص على عدم انهيار المفاوضات مع إيران لاستئناف العمل بالاتفاق النووي وعدم اتخاذ خطوات تصعيدية ضد إيران في سوريا، باستثناء الرد على استهداف أميركا ودعم غارات إسرائيل. وكتب ماكغورك في «فورين بوليسي» في 2019: «الدول العربية ستعاود التعاون مع دمشق. إن مقاومة واشنطن لهذا الاتجاه لن تؤدي إلا إلى إحباط الدول العربية وتشجيعها على ممارسة دبلوماسيتها من وراء ظهر واشنطن. لذا، فإن النهج الأفضل هو أن تعمل الولايات المتحدة مع شركائها العرب لصياغة أجندة واقعية للتعامل مع دمشق، مثل تشجيع الدول العربية على ربط علاقاتها المتجددة مع سوريا بإجراءات بناء الثقة من نظام الأسد».
ويتوقع أن يقدم فريق أميركي، الأهداف الأميركية الجديدة إلى حلفاء واشنطن خلال اجتماع يعقد على هامش مؤتمر التحالف ضد «داعش» في بروكسل في 2 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، حيث سيعقد لقاء خاص بسوريا.