في منطقتنا هذه، يدور الحديث عبر التاريخ غالبا حول ثلاث قوميات كبرى؛ العرب والفرس والترك، يتنافس – ويتصارع- أبناؤها، ويتبادلون فرض السيطرة، بينما ينسون – أو يتناسون- قومية أخرى مهمة، ذات تاريخ وحضارة، كان لها يوما دولة، بل امبراطورية، حتى آل الحال الآن بأبنائها إلى طلب حق العيش – فقط- بحرية وسلام.. إنهم الكرد.
وبينما يرفض كثيرون منهم إطلاق مسمى «الأكراد» عليهم، لأنه في نظرهم تقليل من شأنهم، كالفرق بين لفظي «العرب» و«الأعراب»، إلا أن واقعهم اليوم يعكس مدى سوء ألاعيب السياسة وآلة الحرب، التي نجحت في تمزيقهم بين أربعة بلدان، تسيطر عليها القوميات الثلاث الكبرى، هي العراق وسوريا وإيران وتركيا.
كتاب جديد مهم، صدر حديثا عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر»، للكاتب الصحفي فتحي محمود، تحت عنوان «العلاقات العربية الكردية»، يستعرض تفاصيل القضية؛ قضية الكرد؛ تاريخهم، واقعهم، صراعاتهم، علاقاتهم، وسبل الحل الممكنة لأزمتهم، لكن السؤال المهم الذى يحتاج المواطن العربي إلى معرفة إجابته أولا هو: م ن هم الكرد؟.
إنهم ــ كما يشير الكتاب ــ من أقدم شعوب منطقة الشرق الأوسط، يعيشون في الإقليم الذى يُعرف باسم «كردستان»، في غرب قارة آسيا، شمال بلاد الرافدين وجنوب شرق الأناضول، وتُقدر مساحته بنحو 550 ألف كيلومتر مربع. وقد أقاموا عبر التاريخ عدة امبراطوريات. وترجع بداية الأزمة الكردية إلى عام 1555، عندما تم توقيع «اتفاقية أماسيا» للمصالحة وترسيم الحدود بين الدولتين العثمانية السُنية والصفوية الشيعية، إذ تم تقسيم كردستان بينهما. وعبر السنين توالت الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول، حتى جاءت اللحظة التي أصيب فيها الحلم الكردي في تقرير المصير في مقتل، بتوقيع اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916 لتقسيم مناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا، ووراثة تركة «الرجل العثماني المريض» الذى كان يستعد للسقوط الأخير في الحرب العالمية الأولى، إذ تم تقسيم كردستان إلى أربعة أقاليم!.
وبالنظر إلى أصل ومعنى كلمة «كرد» في اللغتين الآشورية والفارسية، أي المحارب، أو البطل، فقد قامت نحو عشرين ثورة كردية خلال 15 عاما منذ 1925 ضد الدولة التركية الجديدة القائمة آنذاك تحت حكم مصطفى كمال أتاتورك، الذى واجه الكرد بالحديد والنار؛ بالقصف والذبح والترحيل، لمنع أي نزعة انفصالية، كما عمد إلى طمس الهوية الكردية، عبر حظر لغتهم في التعليم أو الكلام، فلا صحف أو أغان أو أشعار، وبلغ إجمالي من تم ذبحهم وترحيلهم 15 مليون كردي!.
ولم تتوقف معاناة الكرد عند حدود حكم أتاتورك زمنيا، أو تركيا مكانيا، فالسجن والتدمير والتهجير مستمر حتى اليوم في عهد الرئيس رجب أردوغان، الذى يقبع في سجونه منذ 22 عاما مؤسس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، برغم أن الكرد يمثلون نسبة 20٪ من المواطنين الأتراك. وفى سوريا أيضا تعاملت بعض الأنظمة الحاكمة معهم بقسوة، إذ تم تجريد 120 ألف كردى من الجنسية السورية خلال إحصاء عام 1962، بحجة أنهم من المهاجرين الأجانب، وحرمانهم من حقوقهم في الصحة والتعليم والعمل، فضلا بالطبع عن مجزرة «حلبجة» في العراق عام 1988 وما تلاها من عمليات إبادة، قُدرت أعداد ضحاياها من الكرد بمائة وثمانين ألفا. وربما يصعب إنكار أن الكرد قد سقطوا مرارًا – في سبيل البحث عن حقوقهم- في فخ حساباتهم السياسية الخاطئة، لا سيما في أزمتي العراق وسوريا حاليا، لكن هذا لا ينفى أنهم ــ عبر تاريخهم ــ هم أشد الناس عذابا في الأرض، ليس فقط لما واجهوه ويواجهونه، إنما لأنهم ليسوا كغيرهم، إذ لا صوت يعبر عن قضيتهم، لكن ــ وللعجب ــ كان انطلاق أول صوت كردى مقروء، ومسموع، من أرض مصر.
يعرض كتاب «العلاقات العربية الكردية» صورة العدد الأول من جريدة «كردستان»، أول صحيفة كردية في العالم، أصدرها الأمير مقداد مدحت بدرخان يوم 22 أبريل عام 1898 باللغة الكردية في القاهرة. ومن القاهرة أيضا عام 1957 انطلقت أول محطة إذاعية من نوعها، أطل الكرد على العالم بلغتهم من خلالها، ولا غرابة في ذلك على ما يبدو، إذ نعرف من خلال الكتاب أن تاريخ العلاقات بين المصريين والكرد يرجع إلى العصر الفرعوني، وكانت هناك علاقات نسب ومصاهرة، ومراسلات مطولة بين أمنحوتب الثالث والملك توشرتا الميتاني، الذى تشير بعض المصادر إلى أنه والد نفرتيتي زوجة أخناتون، لكن هذا لا يزال محل جدل ونقاش. والأكثر من ذلك، مما يكشفه الكتاب، أن الكثير من العائلات الكردية قد هاجرت إلى مصر واندمجت في الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، وإليها تنتمى أسماء رنانة مثل الشيخ محمد عبده وأمير الشعراء أحمد شوقي والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، بالإضافة إلى قاسم أمين وعباس العقاد وأحمد مظهر ومحمود المليجي وسعاد حسنى وصلاح السعدني، فضلا عن المخرج على بدرخان الذى التقاه المؤلف ونقل عنه تفاصيل مهمة.
أخيرا.. يطرح الكاتب الصحفي فتحي محمود رؤية شاملة لاقتراح إقامة حوار دائم بين الجانبين، عبر إنشاء معهد عربي كردي، يتولى تنشيط حركة التواصل والسياحة والترجمة بالتبادل، للاطلاع على فنون وثقافات الطرف الآخر، بهدف تصحيح الشبهات وتقريب الرؤى، داعيا الجامعة العربية إلى القيام بدور في هذا الإطار، وهو اقتراح مهم حتى لا يبقى واقعنا كما هو، أو حتى لا نظل كما قال المؤلف في صدر كتابه مستعيرا مقولة المناضل الأسير عبدالله أوجلان: «التاريخ مخفى في حاضرنا.. ونحن مخفيون في بداية التاريخ».
محمد شعير – صحيفة الأهرام المصرية