أكثر ما يجمع بين عمر حسن البشير وبشار الأسد أن أيا منهما لم يعرف ما هو شعبه وما طبيعة هذا الشعب. البشير لم يعرف السودانيين… وبشار لم يعرف السوريين!
تظلّ العدالة الانتقائية أفضل من الغياب الكامل للعدالة. أن يعاقب عمر حسن البشير بعدما أمضى ثلاثين عاما يتحكّم بالسودان ومصير السودانيين أفضل من ألّا يعاقب. سيأتي تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية تتويجا لنضال طويل خاضه الشعب السوداني من أجل التخلّص من نير الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف الذي حوّل بلدا واعدا مثل السودان إلى بلد يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل العودة إلى حكم مدني. لا يزال السودان يحتاج في أيّامنا هذه رعاية العسكر، ولكن إلى عسكر مستنيرين يعرفون كيفية التمهيد لتسليم السلطة إلى المدنيين في مرحلة معيّنة.
ثمّة من سيقول إنّ هناك من ارتكب فظائع تفوق بكثير ما ارتكبه البشير والذين كانوا حوله. التركيز في هذا المجال على ما فعله بشّار الأسد الذي ورث سوريا عن والده وحوّلها إلى بلد تحت خمسة احتلالات صار معظم أهله مشرّدين أو مهجّرين. على الرغم من ذلك، لا يزال بشار متمسّكا بالسلطة رافضا أن يأخذ علما بما يدور في سوريا وعدد القتلى الذين ذهبوا ضحية نظامه. تقدّر الهيئات الدوليّة المحايدة عدد ضحايا الأسد الابن بنحو نصف مليون. بالنسبة إليه، لم يحصل شيء في سوريا التي تكفّل بتفتيتها…
ليست المقارنة بين فظائع البشير وفظائع بشّار كافية لتبرير ما ارتكبه الرئيس السوداني السابق في حقّ السودان والسودانيين. ليست المقارنة كافية للقول إنّ تسليمه المتوقّع للمحكمة الجنائيّة بمثابة ظلم له نظرا إلى أن بشّار مازال حرّا طليقا يسرح ويمرح في دمشق ومحيطها.
المهمّ في الأمر أنّ الموقف الذي اتخذته السلطات السودانية والقاضي بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة يظلّ محطة تحتاج إلى التوقف عندها. يعود ذلك إلى أنّ مجرّد وجود المحكمة الجنائيّة الدوليّة يثبت أنّ هناك عدالة دوليّة تلاحق المجرمين وأنّ لا مجال للإفلات من العقاب في نهاية المطاف. هذا ما حصل مع مرتكبي الجرائم في يوغوسلافيا في الحروب التي خاضتها شعوبها بين بعضها البعض. ارتكب جنرالات ومسؤولون صرب مجازر في حق الآخرين، خصوصا في البوسنة. وجد أخيرا من يضع حدّا لهؤلاء ويؤكّد أنّ ثمّة نوعا من العدالة في هذا العالم… وأن السياسة شيء والبهلوانيات شيء آخر.
مارس البشير كلّ أنواع البهلوانيات منذ تولى السلطة إثر انقلاب عسكري برعاية حسن الترابي في العام 1989. استطاع التخلّص من الترابي الذي اعتقد أنّ في استطاعته استخدام صغار الضباط خدمة لمشروع كان يؤمن به. كان هذا المشروع، الذي ذهب زعيم الإخوان المسلمين في السودان ضحيّته، غير قابل للحياة وقد استخدم البشير أخطاء الترابي ليضع حدّا لطموحاته. كاد ينفّذ حكم الإعدام بالترابي مرّتين لولا تدخّل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي ربطته به علاقة جيّدة لسنوات طويلة.
في كلّ ما قام به البشير طوال ثلاثين عاما، لم يكن لديه من همّ سوى الاحتفاظ بالسلطة. أطلق ميليشياته في كلّ الاتجاهات من أجل إثبات أن لا أحد يمكن أن يتفوّق عليه في القمع في الداخل السوداني. تبقى أحداث دارفور وما ارتكبه الجنجويد خير دليل على ذلك… وعلى مدى شبقه إلى السلطة.
كان مثيرا أنّ البشير امتلك شخصيات عدّة. عندما وجد أن القمع لا ينفع، لجأ إلى المرونة. في التاسع من تموز– يوليو من العام 2011 انفصلت جمهورية جنوب السودان عن الشمال لتصبح أحدث دولة مستقلة في العالم، وذلك نتيجة لاتفاق سلام أبرم في العام 2005 أنهى أطول حرب أهلية في أفريقيا.
من أجل السلطة، كان كلّ شيء مبرّرا من وجهة نظر البشير الذي استخفّ بالمحكمة الجنائيّة الدوليّة في البداية. اعتقد أن مجرّد قبوله بتقسيم السودان سيكفل له البقاء في السلطة إلى مدى الحياة. لم يكتشف سوى متأخّرا أن الشعب السوداني ما زال يمتلك القدرة على مقاومة نظامه المتخلّف وذلك على الرغم من الفشل الذريع للسياسيين السودانيين والأحزاب التي يمثلونها في كلّ مرّة تسلموا فيها السلطة منذ الاستقلال في العام 1956. سهل السياسيون السودانيون تولي اللواء إبراهيم عبود السلطة في تشرين الثاني – نوفمبر 1958 قبل أن يخلعه الشعب في 1964 في ظلّ تظاهرات كان شعارها “إلى الثكنات يا حشرات”. أجبر السودانيون العسكر على العودة إلى ثكناتهم ليقوم مجددا حكم مدني أنهاه جعفر النميري في 1969 مناديا بشعارات وحدوية مضحكة مبكية من نوع تلك التي كان يستخدمها جمال عبدالناصر!
يبقى أن تجربة السودان مع البشير والمحكمة الجنائية تبعث ببعض الأمل في اتجاهين. الأوّل أن يتعلّم السودانيون من التجارب التي مروا بها منذ الاستقلال وأن تكون المرحلة الانتقالية الحالية فرصة كي يلتقط البلد أنفاسه. ما يدعو إلى التفاؤل، وإن نسبيا، أن هناك نوعا من التوازن بين العسكر والمدنيين… في انتظار ولادة سودان جديد بعيدا عن شعارات البشير والنميري. أي سودان على تماس مع ما كلّ ما هو حضاري في المنطقة والعالم، لا علاقة له بالشعارات الناصريّة والإخوانيّة في الوقت ذاته. سودان متصالح مع نفسه أوّلا.
أمّا الاتجاه الثاني الذي يدعو إلى التمسّك بالأمل، فهو أنّ العدالة آتية يوما. لا يمكن لما ارتكبه النظام السوري في حربه المستمرّة بطريقة أو بأخرى على السوريين أن يبقى من دون عقاب.
كان البشير رئيس الدولة العربي الوحيد الذي زار دمشق في مرحلة ما بعد بدء الثورة الشعبيّة في سوريا في العام 2011. التقى بشّار. الأكيد أنّهما بحثا في أفضل الوسائل التي يمكن أن تستخدم لقمع الشعبين السوري والسوداني. ليس ما يشير إلى الآن أن بشّار تعلّم شيئا من البشير، لكن ما لا بدّ من الإشارة إليه أنّ خيطا رفيعا يجمع بين الرجلين. بين البشير وبشّار. يتمثّل هذا الخيط في الاعتقاد بأنّ البهلوانيات يمكن أن تحلّ مكان السياسة الواضحة… التي تعني قبل أيّ شيء آخر أن بلدانا مثل السودان وسوريا تحتاج إلى تغيير في العمق يتجاوز الأشخاص إلى طبيعة النظام وإلى التوقف عن المتاجرة بالشعارات والتنقل بين إيران وروسيا أو بين روسيا وإيران. فما كشفته الأحداث أن أكثر ما يجمع بين البشير وبشّار أنّ أيا منهما لم يعرف ما هو شعبه وما طبيعة هذا الشعب. البشير لم يعرف السودانيين… وبشّار لم يعرف السوريين!
خيرالله خيرالله – صحيفة العرب
مشاركة المقال عبر