منذ بدايات الخليقة، والشعوب والمجتمعات القديمة تعتمد على الحوار كوسيلة لتبادل المعارف والتجارب والسلع وأنماط المعيشة، ولأن الإنسان كائن اجتماعي فقد كان يتواصل مع غيره باستمرار، ويعبّر من خلال كلماته عن ثقافته، فكل سلوكياته وأفكاره ومواقفه تنطوي في جوهرها على علاقات الثقافة وتطورها.
ويعتبر الحوارُ من ركائز التواصل الثقافي بين الشعوب والمجتمعات؛ وهو من ضروريات العصر الحديث، الذي لا يمكن فيه التعايش والتفاعل والتفاهم إلا بقبول الآخَر، والانفتاحِ على الآراء وتبادل الأفكار. لذلك؛ فكرة حوار الثقافات من المفاهيم الأساسية التي أصبحت حاجةً ضرورية ومهمّة، وإنها تحتل الصدارة في قائمة الانشغالات لدى الشعوب والدول والحكومات، وشتى النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، وعند مراكز البحوث المختلفة والمؤسسات الثقافية والدولية، لكونها الطريق الأسلم لتجاوز الأزمات والمشاكل بين المجتمعات والسلطة، وما بين المجتمعات المحلية أنفسها، وما بين الدول من جهة أخرى. وجاءت العولمة لتؤكد هذه النظرية، (نظرية ثقافة الحوار)، حيث إن اللقاءات الوطنية والإقليمية وحتى الدوليةَ لا تتمّ إلا اعتماداً على وجهات النظر التي يقدمها المختصون في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتاريخية والجغرافية، والفلسفية والإعلامية، وذلك للارتقاء بالحوار في تلك المجالات.
إن حاجة المجتمعات إلى ثقافة الحوار خلقتْ مفهوماً جديداً يسمّى حوارَ الثقافات، وهو مفهوم يشير إلى ضرورة تعزيز الحوار بين ثقافات الشعوب المختلفة؛ مما يساهم في بناء تبادل ثقافي بين الشعوب، وهو عبارة عن مشاركة الأفكار والآراء الثقافية المتنوعة بين فئات شعبية أو عرقية، ويؤدي إلى فهم الاختلافات بين الثقافات والعمل على تقريب وجهات النظر حول موضوعات شائكة؛ كاللغة والأخلاق والتاريخ والدين والهوية الثقافية، وغيرها، متفقين فيما بينهم على عدة شروط ومرتكزات لعملية الحوار المشترك، وهي: وجود الاحترام المتبادل، احترام الخصوصية الثقافية، تجنب إطلاق الأحكام المسبقة، فهم التأثر الثقافي الظاهر. وتكون نتيجة هذا الحوار أن المتحاورين يبنون جسور الثقة والتواصل فيما بينهم، منعاً لنشوب حروب ونزاعات إقليمية أو محلية أو عرقية، وتقديم الدعم الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
*ثقافة الحوار وأهميته، بين المكوّنات شمالَ شرقيَّ سوريا:
توصف مجتمعات شماليّ وشرقيّ سوريا (روج آفا) بأنها مزيج من الأعراق الأصيلة في المنطقة (الكردية والعربية) وكذلك الديانات المختلفة (الإسلامية، والإيزيدية، والمسيحية بمختلف طوائفها من: أرمن، آشور، سريان، كلدان). وقد شكّلت هذه القوميات أو الأعراق على مرّ التاريخ هوية ثقافية تمتاز بها هذه المنطقة، حيث يجمعها تاريخ مشترك من التعايش السلمي الذي يجده الفرد في هذه البقعة الجغرافية؛ كنتيجة منطقية، ألا وهي حقيقة وَحدة المصير والمستقبل.
من هذا المنطلق، يعتبر الحوار بين مكونات المنطقة حاجةً ملحّةً وضرورة حيويّة، ويعتبر أرضية ثقافية تجتمع حولها هذه المكونات في صورة أشبه ما تكون بلوحة فسيفسائية، وهذا التمازج بين المكونات العرقية والدينية يجعل من الصعب جداً الفصل بينها، سواء أكان على مستوى الأرض أم اللغة، إذ نجد تداخلاً وتمازجاً بين مختلف الهويّات، ومن دون الحوار لن يتحقق شيء، لذلك فإن ثقافة الحوار أو حوار الحضارات هو المفتاح الذي تنفتح بوساطته أبوابُ العيش المشترك، فلكلّ عرق أو طائفة حضارةٌ تعبّر عن تطور هويتها الثقافية على مر العصور، فالحوار – إن نجح – يسدّ أبواب الصراعات ويمنع سقوط المنطقة بكل مكوناتها في هوّة الضياع والفوضى.
*الحوار وبناء جسور الثقة وقبول الآخر، في ظل الاستحقاقات القادمة والتسويات السياسية المقبلة، في سوريا المستقبل:
عند طرح مفهوم الحوار يجب أن نضع نصب أعيننا أن جميع القوميات أو الأعراق في الجزيرة السورية تبحث لنفسها عن موطئ قدم في رسم مستقبل هذه المنطقة، مقتنعة بأن الحوار ضرورة ملحّة من ضرورات العيش المشترك، وأنه درب صعب وشائك؛ لا بدّ أن تسير فيه كي تحقق أهدافها. لذلك نجد أن اللقاءات المتكررة والمؤتمرات بين هذه المكونات قد وجدت طريقها إلى الشمس، من خلال الاتفاق فيما بينها على تشكيل إدارة محلية ذاتية؛ تضمّ أفراداً وكياناتٍ من مختلف الأعراق والقوميات، تتشارك كلها في صياغة دستور محلّي، يضمن لكل جهة حقَّها في الحياة، ويحميها في الوقت ذاته من التفتت والصراع، وكل هذه اللقاءات والمحاورات لا تتم إلا عن طريق الحوار الذي يبني جسور الثقة فيما بينها، لأن الاستحقاقات القادمة والتسويات السياسية المقبلة في سوريا المستقبلِ لا، ولن تتم، إلا بقبول الآخر، لأن التحديات والرهانات التي تواجهها أكبرُ منها، لذلك يجب أن تتضافر الجهود السلمية كي تستمر عجلة السلام في السير قدماً على طريق المستقبل، فضلاً عن عدم فتح المجال أمام الآراء الهادفة إلى زعزعة المنطقة؛ من خلال بثّ النعرات الطائفية وتقوية الصراعات الإقليمية بالسلاح والموت.
لقد فرضت الحرب الأهلية في سوريا نمطاً جديداً من الحياة، لم يكن موجوداً قبل الأزمة، ألا وهو فكرة تقبُّل الآخر، وأثبتت حقيقةً أن الحوار السياسي والمجتمعي أنجعُ من الحرب في تحقيق السلام، لكون النظام السوري البعثي قد عمد إلى تشويه تاريخ المنطقة بكل السبل، من خلال القوانين العنصرية التي سَنَّها بغيةَ طمس الحقيقة، والتهميشِ الممنهجِ لمكوّنٍ دون آخر، منها: قرارات الإحصاء في عام 1963م والذي بموجبها تم حجب المواطنة عن أكثر من 300 ألف مواطن كردي سوري. وغيرها الكثير من القرارات العنصرية الرامية إلى بسط سيطرتها بشكل أكبر على المجتمع، ورفض أي محاولة للتقريب بين وِجْهات النظر لمكونات المنطقة أنفسها، كالحوار الكردي – الكردي، والحوار الكردي – العربي.
بالنسبة لمشاريع حوار الثقافات المحلية، حالياً، على القائمين عليها التفكيرُ بجدية في المأزق الذي وجدت نفسها فيه، مأزق الحرب، وردمِ الهوّة التي كان النظام السوري البعثي – وما يزال حتى الآن – يعمل على تعميقها، وعليهم التخلّص من فكرة الأنا ” أنا ومن بعدي الطوفان”، فلا سلام من دون الحوار، ولا حوار من دون تقبل الآخر، فهذا التنوع الثقافي والاجتماعي الغني الذي تشهده الجزيرة السورية هو الأرضية التي يجب أن نبني عليها هويتنا الوطنية من جديد.
علينا الاعتراف بأن الحوار الناجح لا يأتي بفضل اللقاءات والمؤتمرات المتكررة، بل هو نتيجة تربية خُلُقيّة وسلوكية، وتراكمٍ معرفيّ، وممارسةٍ لقيم التسامح والاختلاف والاحترام المتبادل، وبأن أفضل الطرق لجعل هذا الحوار محمّلاً بالأمل ومشيّداً لمعابر الثقة بين شعوب المنطقة هو أن يكون أداة؛ لصياغة حلول ممكنة وتشييد آفاق واعدة للتفاهم والتعايش بين الجميع، في عالم زاخر بالتحديات.
Ferhad Ahmi