تظهر أطماع تركيا في إعادة إدراج خارطة قديمة بمناهج الدراسة، تصور الأطماع العثمانية آنذاك في دول الجوار، سوريا والعراق وقبرص.
وتضم الخريطة القديمة شمال سوريا من الساحل، مروراً بشمال حمص إلى شمال العراق، بالإضافة إلى جزيرة قبرص، باعتبارها تابعة لتركيا، وذلك في انتهاك للأعراف والقوانين الدولية.
كل ما تطمح إليه تركيا هو محاولة إعادة كتابة تاريخها القديم للتأثير على المواطن التركي، خصوصاً الشباب، وإيقاظ وتأجيج الروح الشوفينية لديهم، ودعوتهم إلى التعالي بأصلهم وقوميتهم، واتباع توجهات سياسية داعمة للتيارات والأفكار الإخوانية المشبوهة.
وباعتبار الشرق الأوسط فضاءً استراتيجياً بديلاً عن البوابة الأوروبية بالنسبة للرئيس التركي، عدا الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية في سياسة تركيا إزاء العالمين العربي والإسلامي، تتحرك تركيا لفرض حضورها في المنطقة العربية، مستغلة عوامل عدة، أولها: التطورات الدولية المتلاحقة وتراجع المشروع العربي النهضوي، وهناك مزيد من الأوراق التي لعبت بها واستغلتها تركيا للتسلل إلى المنطقة لمد نفوذها في العالم العربي، دون حسابات لنتائج هذه التحركات الملتوية.
وثانيها الجدل حول تراجع أدوار بعض الدول العربية في الآونة الأخيرة، ما شجع تركيا على محاولة رسم صورة جديدة لها، وثالثها الملفات الاقتصادية، خاصة المتعلقة بالثروة النفطية بمنطقة شرق المتوسط، ما استدعى تفكير تركيا في التوسع.
كل ذلك يأتي وسط تعنت تركيا واستمرارها في تحدي المجتمع الدولي الرافض لتدخلاتها العسكرية في سوريا وليبيا، والمندد بانتهاكها سيادة العراق، وتجاوزاتها المتكررة في مياه “المتوسط” وتصعيدها تجاه أثينا، ما يعد مقامرة قد تأتي على تركيا بوابل من الانعكاسات والأزمات، التي لا تُحمد عقباها، خاصة أن المواجهة التركية مع اليونان باتت قريبة بشدة في شرق المتوسط على المستوى العسكري، بحسب خبراء.
وما لا تعيه تركيا اليوم أنها إذا دخلت حربا مع اليونان اليوم، فإنها لن تكون كمثل التي دخلتها في سوريا وليبيا، باعتبارها دولا منهكة عسكرياً واقتصادياً بفعل الاضطرابات الداخلية، فيما اليونان قوة عسكرية مدعومة من العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها فرنسا، كما أن مصر وقبرص واليونان تشكل حائط صد لتجاوزات تركيا في شرق المتوسط، إذ إن التعاون بين الدول الثلاث نجح في ردع أنقرة ووقف تهورها بالمنطقة.
وفي وقت سابق، كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد صرح بأن سرت-الجفرة خط أحمر لا يجب تجاوزه من قبل المليشيات الموجودة في ليبيا، محذرا جهات لم يسمّها، في إشارة إلى تركيا وذراعها في الداخل الليبي، من أن مصر سيكون لها حق الدفاع عن النفس حال تجاوز هذا الخط، الذي يمثل امتدادا للأمن القومي المصري ويعد بوابة إلى موانئ تصدير النفط الخاضعة لسيطرة قوات الجيش الوطني الليبي.
وتعول تركيا في أحلامها على دعم حلف الناتو لضمان أمن تحركاتها العسكرية، سواء في “المتوسط” أو شمال سوريا أو شمال العراق، وحتى في ليبيا، إذ تشارك تركيا في مناورات الحلف حتى في مناطق لا تقع تقليدياً ضمن دائرة اهتمامها، في وقت دعا فيه سياسيون فرنسيون بلادهم إلى طرد تركيا من دول حلف الأطلسي لكون العدوان التركي على الأراضي السورية يخالف مبادئ الحلف، الذي تأسس للدفاع عن الديمقراطية، فلا يجوز أن تهدد تركيا توازن المنطقة وبالتالي أمن أوروبا، وتبقى ضمن أعضاء الحلف.
فهل بعد هذا يمكن أن يستمر حلم التمدد التركي في المنطقة؟
الإجابة أنه قد يتوقف، لكنه لن ينحسر، ولن يزيد على ما هو عليه حالياً، إلا إذا حدثت انهيارات مفاجئة لأنظمة سياسية في المنطقة تتغير معها خارطة التوازنات الإقليمية، وهذا بالطبع سينعكس بشكل أو بآخر على سياسة تركيا، ولا محالة من تقهقرها قريباً، وستبوء حينها خططها وطموحاتها بالفشل الذريع مهما بدا نظامها معتدا برأيه ومواقفه أمام مواقف المعارضة التركية الداخلية، التي ترفض سياسته المتهورة، التي أثرت سلباً على الأوضاع الاقتصادية للشعب التركي.
في السياق ذاته، فإن الأزمة السورية باتت محكومة بمعادلة معقدة من المصالح وموازين القوى، ليس من السهل كسرها أو اختراقها، كما تدرك أنقرة أن أي تقارب مع واشنطن لكَسب نقاط في شرق الفرات سوف تترتب عليه، ليس خسارتها للنقاط التي حازتها في إدلب بموجب الاتفاق مع روسيا فحسب، بل مُجمل موقعها الجديد في المنظومة الإقليمية، والذي حاولت صوغه بعد محاولة ما سمي بـ”الانقلاب الفاشل” في تركيا عام 2016.
وقد يتدخل الجيش السوري لمنع القوات التركية من الاستحواذ على المناطق الشمالية الشرقية لبلاده، لأن هذه المنطقة، التي تخطط أنقرة لاقتطاعها من سوريا، تضم احتياطات النفط والغاز السوري، وهي أكثر الأراضي خصوبة في البلاد، وتُعد المخزون الاستراتيجي للقمح والمواد الغذائية الأخرى، وإدارة تركيا هذه المنطقة -بعد وجودها عسكرياً بها- تجسد حالة احتلال علني، ولا توجد أي دولة في العالم تحترم نفسها وسيادتها يمكن أن تقبل بهذا الاحتلال، والأمن القومي التركي لا يمكن أن يتحقّق باحتلال أراضي دولة مجاورة، لأن هذا الاحتلال يشكل أكبر تهديد له وللمنطقة بأسرها.
هذا الوضع يتطلب اليوم وقفة جادة ضد التدخلات الخارجية في الشؤون العربية، برفض قاطع لتحويل أراضٍ عربية إلى ساحات لمشاريع الآخرين وأحلامهم بالتوسع والنفوذ على حساب أمن واستقرار المنطقة وشعوبها، وقد طالبت الجامعة العربية تركيا أكثر من مرة بسحب جميع قواتها الموجودة على أراضي الدول العربية، لكونها تُعد خرقاً واضحاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، معتبرة أن تلك التدخلات تشكل اعتداءً صارخاً وتهديداً للأمن القومي العربي، لكن هل يتعظ الرئيس التركي من نتائج تحركاته السافرة ومغبة ما يخطط له من أعمال توسعية مآلها الخزي والتهلكة؟
خالد رستم – العين الإخبارية
مشاركة المقال عبر