بدأت الاحتجاجات السلمية من درعا، وأطفال درعا وأهلها كانوا رائدي الثورة التي تحولت فيما بعد لحرب قسمت السوريين داخلياً وقسمت المجتمع الدولي خارجياً . وفي الفترة الأخيرة وصل السوريون لحالة يأس من أي أمل بتغيير الوضع العام وأما “نظام الأسد” فقد بقي معتمداً دولياً, حتى من الدول التي ساندت المعارضة مما يشكل تناقضاً كبيراً بنظر الجميع.
رغم إعلانات الأسد العديدة عن نصره ورغم زعم انتخاباته من شعب منكوب ومكمم بالعنف، إلا أنه لم يتمكن من السيطرة عملياً وجدياً على كل الأراضي السورية: داخلياً هناك مناطق عديدة لا تخضع لقوات الأسد، كمناطق الإدارة الذاتية ومناطق الائتلاف في نواحي إدلب، وأما حمص وريف دمشق وحلب ودرعا فقد تم إخماد الاحتجاجات بدعم من روسيا وإيران وباستسلام أميركي وإهمال تام غربي من قبل الحلفاء الذين لم يجدوا لذاتهم مصالح كافية لخوض معارك على سوريا ومن أجلها وهكذا انتصرت روسيا ومعها إيران وخلفهم الصين.
الوضع السياسي قبل أيام كان يبدو مجمداً لصالح الأسد ونظامه, بينما ما زال يعيش السوريون في الداخل حالة اقتصادية وأمنية كارثية لا أمل قريب من الخروج منها. ولكن ورغم هذا الضعف العام منذ مدة قامت درعا تنتفض, وتعود لتتصدر المشهد السوري وسط شبه صمت دولي, وحدها تعود درعا لحالة التحدي الأولى للنظام فيتصدر اليوم أبنائها قوائم ضحايا “نظام الأسد” وقصفه ويعود الحديث من جديد عن الاعتقالات والاختفاء القسري.
رغم القوة العسكرية وانعدام الدعم لدى المعارضين، استطاع ثوار درعا إحداث اختراق حقيقي جديد لربما من شأنه أن يغير من الموازنات الدولية الحالية.
في الواقع الإرادة السورية لم تتغير لدى أغلبية الشعب السوري الذي ما زال يطمح لاستكمال عملية التغيير التي بدأت عام 2011 مع ثورات الربيع العربي. وللتذكير، الذي أفشل المشروع السوري هو، من جهة، غياب التوافق الوطني على رؤية اليوم التالي لسوريا الجديدة، ومن جهة أخرى ضعف الدعم الدولي الجاد لمشروع التغيير في سوريا, فلم يحظى السوريون جدياً بالقرار الدولي الذي ساهم بإنهاء حكم الديكتاتوريات في كل دول الربيع العربي.
هل التعنت الإيراني في إجرامه بحق السوريين هو مفتاح الفرج لسوريا؟. وقد يكون باب الفرج هذا من درعا حيث أنها جغرافياً تشكل الخط الأحمر في المواجهة مع إيران, التي إن تمادت أبعد بسيطرتها وتجاوزت درعا ستشكل خطراً على الأردن وأيضاً خطراً حتمياً على كافة دول المنطقة.
روسيا المنتصر الأول في هذه الحرب المميتة تعي جيداً خطورة تجاوزات إيران على مستقبلها وعلى النصر المكلف الذي صنعته سياسات بوتين بحنكة ودهاء. روسيا هي المنتصر الوحيد في سوريا لأنها نجحت باستغلال فراغ السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط وضعف الاتحاد الأوروبي نتيجة خلافاته الداخلية وكذلك استفادت من خيار الولايات المتحدة بالانصراف عن الملف السوري معتبرة أنها لم تجد فيه أي مصلحة حيث أنه لم تكن غاية الولايات المتحدة، أكثر من نشر قواعد عسكرية، وتم نشرها بالاتفاق مع روسيا.
لكن رغم انقسام العالم أو عدم اكتراثه للمأساة السورية. فللولايات المتحدة وشركائها على اختلافهم جميعاً موقف موحد فيما يخص الملف النووي الإيران ورفضهم لهيمنة أكبر لإيران في المنطقة.
وأما الصين وروسيا فهم لن يخوضا أي حرب لصالح إيران من شأنها أن تثير غضب أي من الدول الإقليمية التي تحرص روسيا على العلاقات الودية الجديدة التي بنتها حديثاً معها ولا سيما المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
بالتالي الخطوط الحمراء التي يبدو أن إيران تجاوزتها مؤخراً, جعلت روسيا تتنازل عن دعمها لها في عملية قمع درعا, لا بل قررت روسيا الدخول بدور الوسيط لدرجة أننا نكاد ننسى القصف الروسي على مدى سنوات لمناطق المعارضة.
لكن كيف خفي هذا عن الأسد والفرقة الرابعة؟ لربما لم تترك لهم إيران خيار فهم منذ البداية في ذات المركب الغارق، لم يفهموا حدود علاقاتهم مع روسيا البراغماتية التي تدخلت بحزم لكي لا تقع هي في صدام مع الغرب والولايات المتحدة والأهم مع الدول الإقليمية التي تقف يداً واحدة حين يهيمن الخطر الإيراني.
وبالتالي رغم عدم تدخل الأردن بالخلافات السورية ووقوفها على الحياد إلا أن الأردن في الواقع هي أول من يخشى التمدد الإيراني، إن وصلت إيران الأردن ستشكل خطراً على الدول العربية وأولها السعودية.
بالتالي روسيا المنتصرة في سوريا , ليس من مصلحتها إطلاق تحديات مجانية وخصوصاً في وقت هي تجهد فيه لكسب ثقة حلفاء جدد في المنطقة وفي الاتحاد الأوروبي.
داخلياً، للمرة الأولى منذ بداية الأحداث، يأتي خطاب الطائفة العلوية منقسم. جزء من الطائفة مع أل الأسد والعنف الإيراني وجزء عقلاني يطالب بالتراجع بالمصالحة والرضوخ لمشيئة أهل درعا.
هل موقف الطائفة يؤشر على أن الانقسام الحاصل بين روسيا وإيران بلغ ذروته؟
لربما القادم هو تحرر تام للجنوب لحوران السوري, لتلك المناطق التي تشكل صمام أمان للبعد العربي.
بعد الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، ربما القادم هو إدارة ذاتية في الجنوب وبعدها إدارات محلية لمناطق أخرى.. قد لن يقبل البعض. لكن هل تركت لنا إيران في سوريا حلول أخرى؟.
سلام لدرعا ولأهلها.. ولهم النصر. ولكن ما تعلمنا إياه التجارب هو أنه لا يمكن لمنطقة وحدها بمفردها أن تنتصر على النظام .. فهو وإن تم سيبقى نصر منقوص, نصر مرهق .. كما نشاهد في المناطق المحررة ومناطق الإدارة الذاتية، التي تجهد لتأمين ظروف ممكنة لسكانها.
لا بد أن نعي ماذا يعني أن النصر الوحيد الممكن هو لكل سوريا.. و لماذا عملياً لا يمكن حتى تشكيل إدارة ذاتية ناجحة أو فيديرالية دون البدء باتفاق عام وشامل. والأهم هو أن نعي أن الادارة الذاتية أو الفيديرالية هي ليست طلاق عن سوريا بل هي عقد زواج عن حب فيه شروط تضمن حق التساوي بالقانون للطرفين وهم: سوريا والمكون الموقع للعقد معها.
لا أتحدث عن الكرد فقط.. لا بل أتحدث عن أهل درعا والسويداء وكل الصامتين في كل سوريا.. وفي الساحل أيضا ولدى الطوائف العديدة.
لمى الأتاسي – نورث برس