لم تخف دوائر سياسية تساهم في صنع القرار وتشكيل الرأي العام داخل الولايات المتحدة خشيتها من تنامي نفوذ روسيا عبر شركاتها الأمنية والعسكرية المتنوعة التي انتشرت بشكل مكثّف وباتت تهدد الانتشار الأميركي في أفريقيا وآسيا وأوروبا.
وساهمت مجموعة واسعة من الشركات الأمنية والعسكرية الروسية، التي تتبع مباشرة الحكومة في موسكو، في المساعدة على بسط نفوذ واسع لروسيا في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، بالإضافة إلى القيام بمهمات ساعدت في الحفاظ على كيانات تدعمها موسكو سياسيا وأمنيا، بحسب تقرير لصحيفة العرب.
وفي ضوء التراجع الأميركي في المنطقة أمام تصاعد النفوذ الروسي على أكثر من صعيد، تعالت الأصوات داخل الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة محذرة من تنامي نفوذ مجموعة فاغنر الأمنية في دول مثل سوريا وليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومدغشقر وموزمبيق وأوكرانيا. وبدا الصعود المتنامي للقوة الأمنية التي تتبع مجموعة فاغنز يزعج دوائر صنع القرار داخل واشنطن.
وسلط تقرير جديد موسع نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي الضوء على “جنود الشركات الروسية الأمنية والعسكرية”، والتي تلعب دورا بارزا في تعزيز النفوذ الروسي في مناطق واسعة حول العالم.
وجاء نشر التقرير، المكون من 114 صفحة وأعده الباحثان في المركز سيث جونر وكاترينا دوكسي، في الوقت الذي بدا فيه تراجع كبير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى الانسحاب من أفغانستان وترك المجال أمام المنافسين الإقليميين لواشنطن بما فيهم روسيا للعب أدوار في تلك المنطقة.
وتقوم مراكز البحث والدراسات من خلال تقارير تصدرها بالتأثير على الرأي العام في الداخل، وبذلك تكون مساندة لوجهات نظر السياسيين في مراكز القرار تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية.
وتخشى الدوائر الأميركية من تصاعد النفوذ الروسي، الذي بدأ منذ التدخل في سوريا لدعم نظام الرئيس بشار الأسد عام 2015، بالإضافة إلى الانتشار الأمني للشركات الكبرى الروسية في أفريقيا لدعم الحضور الاقتصادي والسياسي لموسكو.
وفي أبريل الماضي كتبت آنا بورشفسكايا الخبيرة في الشأن الروسي في معهد واشنطن إن “استمرار إدارة الرئيس جو بايدن في عدم منح الأولوية للشرق الأوسط لصالح منافسة الصين وروسيا في مناطق أخرى، فإن موسكو سترى في الشرق الأوسط ساحة رئيسية لهذه المنافسة وستحول المنطقة إلى وسيلة ضغط على الغرب وحلفائه”.
واستخدم الرئيس فلاديمير بوتين تلك الشركات للحفاظ على الأمن وحماية المصالح الروسية في الشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها من الأماكن. كما لوحظ أن تلك المجموعات التي تتبع شركات أمنية حكومية في الغالب أنها تعمل وفقا لمهمات محددة وتتبع عمل القوات الخاصة في الحفاظ على المكاسب الاقتصادية والأمنية التي حققتها موسكو في أماكن نفوذها.
وينتقد تقرير مركز الدراسات الأميركي غياب القراءة العميقة لأنشطة الشركات الكبرى الأمنية والعسكرية لروسيا، حيث يظهر أن هناك قدرا محدودا من التقييم المنهجي للشركات الروسية الخاصة، وأنه لم يتم اتخاذ ضدها سوى قدر محدود من العمل الوقائي الدبلوماسي والمخابراتي من قبل الإدارات الأميركية.
ويقول خبراء المركز الأميركي إن “هناك قدرا ضئيلا من التنسيق الملموس بين الأجهزة أو بين الدول في مواجهة أنشطة الشركات الأمنية الروسية”.
وتتعاون الشركات الروسية الخاصة في أحيان كثيرة مع الحكومة الروسية بما في ذلك الكرملين ووزارة الدفاع وجهاز المخابرات وجهاز الأمن الفدرالي، حيث تقوم بمجموعة من المهام المتعلقة بالقتال والعمل شبه العسكري والأمن والمخابرات.
وعلى الرغم من أن الشركات العسكرية الروسية الخاصة تمثل مجرد عنصر واحد ضمن مجموعة من التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة، فإن واضعي التقرير يرون أن هذه الأمور “تتطلب رد فعل أكثر تنسيقا وقوة من جانب الولايات المتحدة وشركائها”.
وبدت الاستراتيجية الروسية المتبعة في تعزيز الانتشار العسكري إلى جانب الحضور السياسي غير مفهومة لدى دوائر بحثية أميركية، لكن التقرير الجديد يحث على ضرورة “فهم الاستخدام الروسي لشركاتها الأمنية الخاصة في الإطار الأوسع نطاقا على صعيد الحرب غير النظامية وأساليب المنطقة الرمادية”.
وتمثل مجموعة فاغنر مكونا مهمّا في الحملة العسكرية الروسية غير النظامية، لكن الولايات المتحدة وشركاءها لم يفعلوا الكثير لمواجهة استخدام روسيا المتزايد لتلك الشركات الأمنية، وهو الأمر الذي يدعو فيه تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية إلى اتباعه عبر “إعطاء الأولوية لاستخدام أدوات القوة الدبلوماسية والمعلوماتية والمالية” لمواجهة تلك الشركات.
ويرى خبراء المركز الأميركي أن استهداف مجموعة فاغنر التي تحتكر السوق الروسية للشركات العسكرية الخاصة يمثل نقطة ضعف يتعين استغلالها أفضل استغلال، فهي تعمل في حوالي 12 دولة، بينما معظم الشركات الأخرى تعمل في دولة أو دولتين فقط.
ويقول هؤلاء إن مجموعة فاغنر تعمل في الدول التي لروسيا فيها مصلحة أكبر، ومع ذلك لم تطلق واشنطن حملة دولية فعالة ضد المجموعة ولم يفرض الاتحاد الأوروبي أي عقوبات ضدها.
ويتصف عمل الشركات الأمنية والعسكرية في أحيان كثيرة بالسرية والكتمان، خاصة في ظل محدودية المعلومات المتداولة عن القوة الأمنية الأكثر حضورا لروسيا في مناطق نفوذها وتتبع مباشرة الرئيس بوتين.
وتتمتع مجموعة فاغنر بتسليح على مستوى عال بدءا من الطائرات المسيّرة الخفيفة المخصصة للمراقبة وتوجيه المدفعية إلى القناصة ومنظومات بانتسير الصاروخية المضادة للطائرات وصولا إلى مقاتلات ميغ 29 الحديثة متعددة المهام وقاذفات سوخوي 24.
ويقول مركز الدراسات الأميركي إن هناك ضرورة أن “تركز الحملات الإعلامية على توفير الشفافية والوعي العالمي بالنسبة إلى الأنشطة غير المشروعة للشركات العسكرية الخاصة وانتهاكاتها لحقوق الإنسان وصلاتها ببوتين والحكومة الروسية”.
وفي 28 يونيو الماضي سجل تقرير للأمم المتحدة تورط شركات عسكرية روسية خاصة في أفريقيا الوسطى بـ”استخدام مفرط للقوة وقتل دون تمييز وأعمال سلب ونهب على نطاق واسع شملت منظمات إنسانية” بمشاركة قوات أفريقيا الوسطى، لكن موسكو رفضت تلك الاتهامات واعتبرتها “افتراءات جديدة”.
ويرى التقرير أن هناك فرصة لواشنطن وشركائها لاستغلال نقاط ضعف الشركات الأمنية الروسية، حيث يتعين أن تكون أي حملة فعالة ومتعددة الأطراف لتكثيف الضغط على روسيا، بالإضافة إلى تقويض عمل الشركات ومنع موسكو من زيادة نفوذها في الخارج بدرجة كبيرة.