في الاسبوع الفائت، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في ضيافة جو بايدن، حيث قدم على شرفها طعاماً مريحاً أعطى طابعاً عاطفياً بالحنين إلى النظام العالمي القديم. وفي الوقت الذي تغادر أنجيلا ميركل منصبها بعد خدمة دامت 16 عاماً والتي تركت إرثاً شخصياً كبيراً في السياسة الأوروبية، في حين لا يزال بايدن يسعى أن يترك بصمته.
انقضى ستة أشهر من رئاسة بايدن منذ توليه منصبه، والذي ورث عن دونالد ترامب أمة متشرذمة، حيث وعد بأن الحكومة قادرة أن تعمل بصورة جيدة، وتملك الإرادة على تقديم المساعدة لشعبها بصورة أفضل بكثير مما تقوم بها الأنظمة المستبدة الصاعدة مثل الصين _ كما حاول بايدن إقناع العالم المشكك بالدور الأمريكي الريادي، وذلك من خلال عودة أمريكا بقوة إلى الساحة الدولية.
والسؤال الرئيسي كيف يجري ذلك؟ إنه اشبه بذلك التساؤل عما إذا كان نصف الكأس فارغ أو ممتلئ. حيث شرع بايدن بحملة قوية لتوزيع اللقاحات ضد وباء فيروس كورونا والذي يعد من أكبر وأصعب الأزمات التي تواجهها الولايات المتحدة، وأدت هذه الحملة للتقليل من الإصابات والوفيات لأكثر من 90 ٪ منذ إشتداد الفيروس ووصوله لذروته في كانُون الثّانِي ( يَنَاير).
ووقع بايدن أيضا على قانون بقيمة 1.9 تريليون دولار لمواجهة تداعيات فيروس كورونا والذي أسهم في إنقاذ الإقتصاد المتدهور وتأمين أكثر من ثلاثة ملايين فرصة وظيفية، اي أكثر بكثير مما ستنجزه أية حكومة جديدة خلال عملها في الأشهر الخمس الأولى، رغم أن الاقتصاد بقي مستواه ما يقارب 6.8 مليون وظيفة قبل فترة الوباء. وبلغت قيمة المدفوعات الضريبية للأطفال نحو 35.2 مليون عائلة وهو دليل على تكريس الحكومة جلى طاقاتها للعمل المستمر.
بيد أن نشوة بايدن خلال فترة مئة يوم منذ توليه السلطة تراجعت بعد أن اصطدمت بالواقع المرير. وقد انشطر الاستثمار الهائل في البنية التحتية الحزبين إلى معسكرين، وبقي هذا الملف عالقاً حول أشياء تافهة في ردهات واشنطن، وليس هناك معطيات مؤكدة تشير إلى إمكانية إيجاد التسوية التي قد تتمخض عن مفاوضات الكونغرس. كما وصلت المناقشات بشأن الحد من انتشار السلاح والهجرة واستخدام العنف المفرط من قبل الشرطة إلى طريق مسدود.
قام الجمهوريون بعرقلة تشريع توسيع حقوق التصويت، وكذلك الحد من تغلغل المال في السياسة، علاوة على ذلك تجنبوا تشكيل لجنة ثنائية من الحزبين للتحقيق بالهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي والذي حدث في 6 كانُون الثّانِي (يناير) مستخدمين حزمة من الإجراءات بمجلس الشيوخ تعرف بإجراء التعطيل ” المماطلة السياسية “. كما ارتفعت حالات المصابين بفيروس كورونا بين أولئك الذين لم يتلقوا التطعيم نتيجة إيمانهم بنظريات المؤامرة المناهضة للعلم، وغالبيتهم من انصار دونالد ترامب.
بمقدور بايدن الدخول إلى التاريخ من أوسع أبوابه كرئيس مخضرم، ولتحقيق ذلك عليه أن يقوم بذلك من دون الحصول على الأغلبية النيابية وهي رؤية فرانكلين روزفلت أو تسخير سياسة لي الذراع ـمثل ما فعل ليندون جونسون. كما ينبغي أن ينجز ذلك في خضم أمة لا تزال أفكار ترامب معشعشة فيها وسط تعنت حكام الولايات الجمهوريين، وانتقادات متواصلة من قبل وسائل الإعلام اليمينية. وعليه، فأن أمريكا في حالة تشرذم وانقسام دائمين.
وقال ليون بانيتا وزير الدفاع الأسبق ومدير وكالة الإستخبارات الأمريكية : ” من دون أدنى شك إنه وقت عسير، والرئيس بايدن يبذل قصارى جهده للحفاظ على ديمقراطيتنا في هذا الوضع المتأزم. وأعتقد بصواب كل ما يفعله، فهو يبذل جلى طاقته لتحقيق ولو جزء يسير من التعاون والتنسيق الثنائي بين الحزبين”.
وأضاف بانيتا :” بيت القصيد من ذلك هو أن هذه القوى الفاعلة داخل البلد من الصعب جداً السيطرة عليها، ولا نعلم أي إتجاه نسلك للتعامل مع ذلك، وفيما إذا كان بمقدورنا استعادة رونق ديمقراطيتنا التي كنا تتمتع به في عهد أجدادنا من منظور قدرتها على إدارة البلاد”.
بناء عليه، يمكن القول بأن أمريكا قد واجهت شخصية مزدوجة لـ جو بايدن على مدى نصف العام المنصرم. فالشخصية الأولى لبايدن مألوفة : فهو مؤسس محافظ، عمل بمجلس الشيوخ لمدة 36 عاماً، وكنائب للرئيس لمدة ثمانية أعوام، وكان مستبشرا في العلاقات الثنائية بين الحزبين. هذا هو بايدن الذي يجالس أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بالمكتب البيضاوي ويرفض المطالبة بإبطال التعطيل أو المماطلة، ويحاول أحياناً تقليل من إرهاصات حقبة ترامب عبر همس خافت.
تراجعت الإساءات الصبيانية والتهم التي تطلق جزافاً والتغريدات المستغربة، مقابل عودة الكياسة والقدرة على التنبؤ والركود. وبعد كلمة دامت لنصف ساعة في مدينة كريستال ليك بولاية إلينوي في وقت سابق من هذا الشهر، أقر بايدن :” اعلم أن هذا الخطاب يجلب الملل”.
لكن الأمر لا يتوقف هنا، هناك شخصية بايدن غير متوقعة، والتي تمضي قدماً وبكل رباطة جأش، وتنشد إستعادة بناء الثقة من خلال قدرة الحكومة على تحسين الأوضاع المعيشية وإعلان إندثار تجربة الـ 40 عام لـ رونالد ريغان في ” الركود” الإقتصادي. إنه بايدن الذي يقود حكومة متنوعة في تركيبتها الادارية بغية معالجة القضايا المتعلقة بالمناخ والتعامل مع انتشار السلاح والعدالة بين الأعراق، ليكتسب الثناء من التقدميين، ويضمن مقعداً له على طاولة السيناتور بيرني ساندرز. وتشكل شخصيتا بايدن معا مُفَارَقَة بحد ذاتها. حيث وصفه السيناتور الجمهوري، تيد كروز ” جو شخص ممل، لكن جوهر ما يقوله راديكالي”.
وقال رئيس اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري السابق مايكل ستيل :” لم ولن يكن بايدن مثل الرئيس الأمريكي السابق ليندون جونسون، فهو ليس صبياني مثله لا يكترث للاجتماعات. أولاً، ينبغي عليك أن تعرف شخصيته عن كثب من دون إطلاق أحكاما مسبقة، فهل هو تقدمي أم ليبرالي أم وسطي؟ وينبغي عليك أن تفهم شخصية بايدن، وبناء عليه يتم تشكيل الاستراتيجية “.
بيد أن الرئيس في موقف لا يحسد عليه بين هذه الأجنحة الحزبية. إن الأغلبية الديمقراطية بمجلس النواب قليلة جداً. وفي مجلس الشيوخ فإن لكل من الحزب الديمقراطي والجمهوري 50 مقعداً، وفي حال تعادلت نسبة الأصوات فإن تغيير كفة الميزان يتوقّف على صوت نائبة الرئيس كمالا هاريس. ويوجد ضمن صفوف الحزب العديد من التقدميين الناقمين ضد المحافظين أمثال جو مانشين عن ولاية فرجينيا الغربية وكيرستن سنيما عن ولاية أريزونا. وينوي أعضاء مجلس الشيوخ عقد تصويت إجرائي في الأيام القادمة حول قانون البنية التحتية الذي لا يزال يتجاذب بين الحزبين.
وقالت ليا غرينبيرغ الموظفة السابقة بالكونغرس والتي تشغل منصب الرئيس التنفيذي المشترك لحركة عدم التقسيم، بإن حزمة الإجراءات المتخذة ضد فيروس كورونا من قبل بايدن ما هي إلا إثبات بأنها ” معيار ذهبي”.
وحسب غرينبيرغ :” كان بايدن يمتاز بسرعة البداهة، ولم يتوقف عند الوهم السائد بوجوب إحداث التوافق بين الحزبين حول القضايا القائمة، وهو على دراية بأن الجمهوريين الذين كانوا يثيرون المشاكل ويسعون التقليل من أهمية حزمة الإجراءات المتخذة لم يقوموا بفعل شيء يضاهي أو أفضل من هذه الحزمة”.
وأضافت :” لذلك فقد بذل جهدا كبيرا واستخدم سلطته كرئيس وسلطة إئتلافه لتمرير تشريعات أساسية. وما كان مخيباً للآمال في الأشهر القليلة الماضية هي المحادثات العقيمة حيال حزمة الإجراءات فيما يتعلق بالبنية التحتية بين الحزبين، والتي على ما يبدو أن مصيرها هو الفشل في نهاية المطاف، وذلك بسبب تعنت الجمهوريين وغير مقتنعين بحزمة الإجراءات هذه، حيث يسعون فقط للوقوف كحجر عثرة في طريق أجندة بايدن”.
إن الإنقسامات وصلت إلى ذروتها نتيجة لـ إجراء التعطيل (المماطلة السياسية) التي تُمكِّن الجمهوريين من عرقلة حقوق التصويت الوطنية، وحتى مع قيام الجمهوريين على مستوى الولاية بفرض قوانين من شأنها أن تجعل من الصعب التصويت، وخاصة فيما يتعلق بذوي البشرة الملونة. وقد ألقى بايدن الأسبوع الماضي من أكثر خطاباته حماسة حيث اِسْتَهْجَن ” كذبة ترامب الكبيرة” والتي تشكل خطراً على الديمقراطية، ومع ذلك فهو لم يتطرق إلى إجراء التعطيل (المماطلة السياسية).
وقال رشاد روبنسون ، رئيس منظمة ” التغير من أجل اللون” ، وهي منظمة تقدمية للدفاع عن الحقوق المدنية :” إن تقييد الحركة ليس مقتصراً فقط على الأشخاص بل يشمل أيضا الهياكل والأنظمة، وكلها تصب في إجراء التعطيل (المماطلة السياسية). نحن نسير في دوائر مفرغة حول سياسات ملحة أشبه ما تكون بقوانين جيم كرو التي كانت تفضي لعرقلة التقدم. على إدارة بايدن أن تبذل جهوداً في مواجهة ذلك”.
وأقر روبنسون بتأثير الإعفاء الضريبي للأطفال والذي يهدف للحد من فقر الأطفال للنصف، ويكون له أثر وصدى كبيرين عند العوائل من ذوي البشرة الملونة. ويقول روبنسون :” إنه قرار شجاع، وأعتقد أن تأثير ذلك كبير من منظور العدالة العرقية، ولا أريد أن أبخس حق رمزية هذا الإنجاز”.
وقد رسم بايدن خطاً واضحاً من الداخل الأمريكي ليتوجه من خلاله إلى العالم، حيث كان مدركاً لرؤية العالم إبان فترة حكم ترامب على مدى أربعة أعوام، عندما أظهرت إستطلاعات الرأي بأن سمعة أمريكا أصبحت بالحضيض. وعلاوة على ذلك فقد اندهش المجتمع الدولي بصورة الإقتحام العنيف لمبنى الكابيتول الأمريكي في السادس من كانُون الثّانِي ( يناير).
وقد أثار العنف السياسي وجمود واشنطن وفقدان الثقة رويداً رويداً بالحكومة، موجة أسئلة عن النموذج الديمقراطي الغربي قياساً مع تحقيق الصين لمكاسب سريعة. وقد وصف بايدن ذلك بأن صراع وجودي في القرن الحادي والعشرين يدور بين الديمقراطية والاستبدادية.
وعليه، عقد بايدن جملة من تحالفات خلال جولته الأوروبية الأخيرة، حيث حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مغبة الاعتداءات المتكررة عند استضافة ميركل في واشنطن مؤخراً. وقد ساعدت رباطة جأشه وخبرته العميقة بالسياسة الخارجية من عودة الأمور إلى نصابها _ على الأقل في الوقت الراهن _ في الوقت الذي تشير استطلاعات الرأي، عودة الثقة بأمريكا مجدداً.
وقال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق بانيتا :” إن العالم، باعتقادي، يرحب بالولايات المتحدة، بيد إنه ومن دون أدنى شك بمقدورهم رؤية ما يحدث في هذا البلد من عملية استقطاب. وإن العدد الكبير من الناخبين الذي برز جلياً بالإنتخابات الأخيرة من كلا الطرفين، يظهر للعالم بأن أمريكا لازالت بلد منقسم على نفسه، وهناك خطر جسيم، رغم كل الجهود التي تبذل من قبل جو بايدن، يُنظر إلى أمريكا في الوقت الحالي باحتمالية انتكاسها وعودة حقبة الفوضى إبان حكم ترامب، الأمر الذي يبث الرعب لدى كل شخص”.
يدرك قادة العالم الذين يعقدون إجتماعات مع بايدن البالغ من العمر 78 عام بأن رئاسته في موقفٍ حرج ومتزعزع. وثمة حسابات في هذا السياق تشير بأنه من المرجح أن يفقد الديمقراطيون في العام القادم كل من مجلس النواب والشيوخ، الأمر الذي يجعل الوصول للحكم شبه مستحيل. وبحلول عام 2024، ربما سيخسر بايدن بالإنتخابات الرئاسية أمام ترامب أو شخص آخر شعبوي على غرار ترامب، فالأمر متوقف على بضعة آلاف من الأصوات في عدد قليل من الولايات المتذبذبة.
ويقول مايكل برونينغ، المدير التنفيذي لمؤسسة فريدريش إيبرت ستيفتونغ، وهي مؤسسة فكرية مقرها نيويورك تابعة للديمقراطيين الإشتراكيين الألمان :” في مستهل الحديث عن الانتخابات النصفية التي ستجري في العام 2024 ومع استمرارية بروز تأثير سياسات ترامب على المشهد السياسي. ثمة خطر اشبه ما يكون بلعبة اليويو، تدور فحوى تلك اللعبة عندما تنتقل السلطة من رئيس لآخر، بحيث يمحى كل شيء بمجرد رحيل ذاك الرئيس، وعلى الآخر الذي تسلم زمام السلطة أن يبدأ من جديد. والسؤال الذي يطرح نفسه، كم مرة سنشهد تحولات بالمشهد السياسي من دون سن تشريعات ضد الصين ومواجهتها؟ و يترتب على هذا الأمر تداعيات خطيرة “.
المصدر:الغارديان