بات من الصعب على رئيس النظام السوري بشار الأسد الظهور بهيئة عدم المكترث بعد عشر سنين من الحرب، حوّلته وحوّلت سوريا إلى حالة فريدة من الحطام، والدولة الفاشلة اقتصاديا، دولة تعيش على المساعدات، كما هو حال مواطنيها المشردين في المخيمات. الفارق فقط أن المخيم الذي يعيش فيه الأسد وهياكل دولته، مغلّف بشيء من الهيكلية، ووهم الاستقرار، بينما تنكشف أوضاع السوريين في ما تبقى من أنحاء البلاد والجوار.
الهدف الذي يرمي إليه الأسد، عبر مرسوميه الأخيرين بزيادة مرتبات الموظفين، المدنيين والعسكريين، بنسبة 50 في المئة، ورفع الحد الأدنى من الأجور، هو القول إن الأمور تتقدّم إلى الأمام، نحو المزيد من استعادة بسط سيطرة الدولة على الأوضاع العامة. بينما يعكس حجم العمالة الحقيقي في سوريا الواقع بأكثر مما يريد الأسد تصويره، حيث أن إجمالي عدد الموظفين المسجّلين انخفض بين عامي 2011 و2019 ليبلغ قرابة الـ3 ملايين موظف، أما نسبة البطالة في أحدث أرقامها فتجاوزت الـ31 في المئة، حسب الأرقام الرسمية السورية، وضعف هذا الرقم حسب المراكز البحثية المستقلة والدولية، بواقع 90 في المئة من العاطلين الذكور ممن هم دون سن الأربعين.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة لمعرفة أسباب تدهور سوق العمل، فالدمار الذي لحق بالبنية السكانية وحده كفيل بتفسير ذلك، وانهيار القطاعات الاقتصادية والزراعية الكبرى وكذلك هجرة المؤسسات الصناعية، وهجرة رأس المال. فلمن كانت زيادة الأجور؟
الاستقرار يتيح الفرصة لانتعاش سوق العمل، ومادام هذا غير موجود، فإن أي إجراء يتخّذ إنما يندرج ضمن سياق تطويق الأضرار واحتوائها، أو الدعاية السياسية لا أكثر.
في أواخر العام 2020 كانت الأسرة السورية قد بدأت تستهلك شهرياً أكثر من نصف مليون ليرة، وقال الخبراء حينها إن ذلك يتجاوز مجموع مرتبات ستة موظفين في القطاع العام، وثلاثة في القطاع الخاص.
أما قبل العام 2011 فقد كانت الطريقة الوحيدة لمعرفة متى سترتفع الأسعار، هي انتظار مرسوم جمهوري يصدره الرئيس الأسد بزيادة الأجور. لم تفشل تلك القاعدة مرة واحدة، وهذا ما تكرّر مؤخراً، حين التهبت أسعار الخبز بنسبة 100 في المئة، أما مصروف المازوت وهو المادة التي يعتمد عليها في تشغيل أرخص وسائل النقل، فقد قفز إلى نسبة 177 في المئة.
ليس من برامج الأسد حالياً ترفيه السوريين ممن يعيشون تحت سيطرته، ولم تعد حتى السخرية التي ترافق عادة كافة الإجراءات التي يتخذها لادعاء الحرص على مصالح الشعب ممتعة لأحد. هناك دوماً ما يختبئ خلف إسعافات النظام الاقتصادية، وهو ما عبّر عنه نهاية شهر يونيو الماضي وزير المالية السوري كنان ياغي الذي قال إنّ “زيادة الرواتب والأجور للموظفين والعاملين في الدولة، تتطلب تأمين السيولة اللازمة لها”.
لندع الاقتصاد للاقتصاديين، انعكاس هذا كله على الموقف السياسي للأسد هو ما يعنيه بالدرجة الأولى، فعمله على التشبّث بالمزيد من سياسة “الصبر الاستراتيجي” يبدو أنه يثمر من وجهة نظره، وما المشكلة في الاستمرار في الحُكم عشرين عاماً قادمة في ظل الأوضاع الراهنة؟ مادام لا أحد يشتكي أو يتذمّر.
تشكّل الاقتصاد السوري منذ بداية السبعينات على نمط مختلف فريد، يجمع الثروة والنفوذ في المراكز المقربة من رأس السلطة، أما ما تبقّى من نشاطات استثمارية فلم يكن يُسمح لها بالنمو إلا بحدود معينة كانت تضيق أكثر وأكثر مع الوقت، حتى لم يعد بإمكان أصحاب أكشاك السجائر الصغيرة العمل بعيداً عن تلك المعادلة، ناهيك عن كبار التجار والصناعيين والمزارعين.
هناك ما يعرف بالاقتصاد السوري، وإلى جواره هناك “اقتصاد النظام”. الاقتصاد السوري لم يتوقف يوما واحدا عن كونه ورقة تفاوض استعملها النظام في مختلف المراحل، وكان جاهزا لمقايضتها مقابل مكاسب يحققها في ملفات أخرى. ومن ينسى تدميره لصناعة الموبيليا والمفروشات التي اعتمدت عليها حلب وأرياف دمشق وكانت تصدّرها إلى العالم، فقط لقاء تطوير علاقته مع الحكومة التركية في بداية عهد بشار الأسد، حين أتاح تدفق المفروشات التركية الرخيصة والأقل جودة، فأغلقت الورش والمصانع السورية أبوابها. الأمر ذاته مع الاستثمارات الإيرانية. وكل شيء قابل للمقايضة مادام اقتصاد النظام بخير.
اقتصاد النظام لا يقوم على العمل في سياق القانون، فهو اقتصاد مقاومة، مثل اقتصاد حزب الله، يعتمد السرية والطرق غير المباشرة التي قد تبدو لنا، غير مشروعة، الهدف منها تعزيز القدرات المالية لمشروع الحرب. أما اقتصاد الدولة فلا يمكن أن يقوم على قواعد من هذا النوع. لأن العالم اليوم بات مترابطا أكثر مما يعتقد أصحاب العقول القديمة، التي تعتمد السوق الموازية، سوق الظل.
ولذلك يجنّد الأسد إعلامه بدلا من الاحتفال بزيادة الأجور، للتمهيد لزيادة الأسعار، وتبريرها. وهو ما فعلته صحيفة “الوطن” السورية المقربة من النظام، في تقريرها المعنون “أسباب موضوعية وبالأرقام لزيادة سعر الخبز والمازوت”. واعتبر إعلام النظام أن المؤشرات تؤكد أن زيادة أسعار مادتي الخبز والمازوت “أمرٌ لا مفر منه، سيحدث قريبا”، لأن “دعم الدولة لهذه المواد يستنزف منها ويشكل عبئا كبيرا على موازنتها. وبرفع الأسعار ستعمل على سد ذلك العجز الكبير”. حسب الصحيفة.
وإن كانت زيادة الأجور قد رفعت قليلا من دخول العاملين في القطاعين العام والخاص تبعاً، فماذا عن العاطلين عن العمل وأسرهم وهم يعدّون غالبية بالملايين؟
وقد يكرّر البعض السؤال لماذا يريد النظام أن يبدو في حالة عجز؟ ليجيب بسرعة، كما كل مرة، إن هدفه رفع العقوبات الدولية وقانون قيصر وخلافه التي يشتكي من أنها تخنق حياة السوريين الذين يقعون ضمن نطاق مسؤوليته.
في هذه الأثناء تروّج أذرع الأسد مصطلحا جديدا للتعبير عن المرحلة القادمة، هو “الاقتصاد الجديد” مبشرين باقتراب مولده، وبمرحلة جديدة ينوي الأسد تدشينها، بعد أن فرغت خزينة الدولة ولم تعد تقوى على دعم الكثير من السلع التي سيؤدي التخلي عن دعمها إلى تعزيز إمكانية العبور إلى مرحلة إعادة الإعمار. وهذا لن يتحقق فقط برفع الدعم، بل بمطاردة العملة الصعبة في السوق السوداء، وبالمزيد من الخنق لحرية مزاولة الأعمال التجارية، وإعلان الحرب على الاقتصاد القديم، الذي كان قوامه العمود الفقري للنظام، ممثلا بشخصيات مثل رامي مخلوف، الذي استبدل اليوم بفريق أسماء الأسد.
وسيستمر هذا التحوّل من اقتصاد قديم إلى اقتصاد أجدّ لا يلبث أن يصبح قديما، حتى ينهي فلاسفة الأسد الاقتصاديون تجاربهم على السوريين، أولئك الذين قام بتحويلهم على مدى عقود، إلى بقرات لم يبق في الضّرع منها ما يُحلَب. واليوم يقوم مشروعه الجديد على خديعة تسمين تلك البقرات العجاف، أملاً بسنين سِمانٍ على شاكلتها.
إبراهيم الجبين – صحيفة العرب