الأخبار سوريا

زرقة سباهية.. صوتٌ يـ ـصـ ـارع الـ ـوحـ ـشـ ـية بين النـ ـكـ ـبة والتـ ـحـ ـدي

في زاويةٍ منـ ـسية من الساحل السوري، حيث كانت قرية قبو العوامية تنعم ذات يوم بالهدوء، تحوّلت منازلها إلى ساحةٍ للـ ـمـ ـوت، وأزقتها إلى مشـ ـاهد من الـ ـرعـ ـب. هناك، وسط الـ ـد…م والـ ـرمـ ـاد، وقفت زرقة سباهية، عجوز في السادسة والثمانين من عمرها، تُحـ ـرس جثـ ـامـ ـين أبنائها الثلاثة، غير عـ ـابـ ـئةٍ بالمـ ـوت الذي أحاط بها.

“فشرت”.. حين تصرخ الأم في وجه القتلة

لم يكن مشهدًا من فيلم، بل مقطعًا حقيقيًا صوّره القتلة بأنفسهم، وكأنهم أرادوا توثيق جريمتهم والتلذذ بها. في اللقطات، تظهر زرقة، امرأة أنهكتها السنوات لكنها لم تنحنِ، تقف بجوار جثث ابنيها كنان، سهيل، وحفيدها محمد، بينما يوجّه أحد المسلحين كلماته الساخرة إليها: “هذول ولادك.. نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”. غير أن الرد جاء صارخًا، بحروف تقطع الظلم كما السيف: “فشرت”. لم يكن الرد مجرد كلمة، بل صرخة تمزق سكون الموت، تهز وحشية قاتليها، وترفض الخضوع، حتى في حضرة الدم والخذلان.

أربعة أيام تحرس الجثث.. خوفًا من النار التي لا تشبع

كانت المذبحة في 7 آذار 2025، عندما اقتحمت مجموعاتٌ أمنية تابعة لسلطة دمشق القرية، بعضهم بوجوه مكشوفة، والبعض الآخر ملثم، بزيّ عسكري رسمي. أطلقوا القنابل لكسر أبواب المنازل، ثم نهبوا الممتلكات قبل أن يقتادوا الشبان الثلاثة إلى خارج البيت. هناك، سألهم أحد المسلحين: “أنتم علويون أم سنة؟”، لكن الإجابة لم تكن تهم، فقد أطلقوا النار عليهم جميعًا، دون اكتراثٍ لصيحات الأم، أو توسلاتهم بأنهم مدنيون، وبأن اثنين منهم كانا يدرّسان اللغة الإنجليزية في الجامعة.

لم يُسمح لزرقة حتى بدفنهم، تُركت الجثث مرميةً قرب المنزل، ومع ذلك، لم تغادر الأم المكان. كانت تعلم أن الموت لم يكن كافيًا في عُرف هؤلاء القتلة، وأنهم قد يعودون لحرق الجثث، لطمس كل أثر، كما فعلوا في قرى أخرى. في ليالي الرعب تلك، وقفت زرقة سباهية حارسةً لجثث أبنائها، تناوبت على حراستهم، بلا نوم، بلا طعام، بلا مأوى، فقط خوفًا من أن تأكلهم نار الوحشية مرتين.

“نريدكم أن تتعذبوا أكثر”.. سادية لا حدود لها

الجريمة لم تنتهِ عند القتل، بل تحولت إلى استهزاءٍ مريع. عاد المسلحون بعد أيام، سخروا من زرقة، استولوا على ما تبقى من المنزل، ورووا “نكاتهم” القاتلة. بل إنهم رفضوا منح الأم أمنيتها الوحيدة، أن تموت مع أبنائها. “بدنا إياكم تتعذبوا أكثر”، هكذا قالوا لها، وهم يتلذذون بمشهدها، وحيدةً، مكسورةً، لكنها لم تنكسر.

القتلة على مرمى البصر.. أين العدالة؟

ليس الأكثر فظاعةً أن المجرمين نفذوا جريمتهم، بل أنهم ما زالوا يعيشون في المنزل المقابل، يرون وجه زرقة كل يوم، وكأنهم يتحدون الإنسانية ذاتها. الابنة، التي نقلت شهادتها للمرصد السوري لحقوق الإنسان، تطالب بمحاكمتهم علنًا، حتى لا يُسمح لهم بالإفلات من العقاب. “لقد سرقوا حياتنا مرتين”، تقول، وتضيف: “نطالب الجهات المختصة بالتدخل الفوري.. لم يعد هناك عدالة ولا أمان”.

الساحل السوري ينزف.. والمجازر مستمرة

قصة زرقة سباهية ليست معزولةً، بل جزءٌ من نزيفٍ مستمر، حيث وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان في 13 آذار وقوع ثلاث مجازر جديدة، راح ضحيتها 158 مدنيًا، جميعهم من أبناء الطائفة العلوية، في تصاعدٍ مستمرٍ للوحشية.

وفي ظل هذا العنف المنفلت، يتعاظم نداء الضحايا: “أخرجونا أو احمونا.. لم يعد هناك ثقة”. في قريةٍ لا دواء فيها، ولا غذاء، ولا كهرباء، ولا ماء، يتحوّل البقاء نفسه إلى مقاومة، وتصبح الحياة نضالًا ضد العدم.

“فشرت”.. صرخةٌ لن تُخمدها الوحشية

لم تكن زرقة سباهية تبحث عن البطولة، لكنها وجدت نفسها في قلبها. ليست مجرد أم فقدت أبناءها، بل رمزٌ لصوتٍ يرفض أن يُسحق، حتى وسط الركام والموت. عندما صرخت “فشرت”، لم تكن مجرد كلمة، بل صدى لكل السوريين الذين رفضوا الرضوخ، ووقفوا في وجه الجلاد، ولو للحظةٍ واحدة.

هذا الصوت، رغم كل شيء، لن ينطفئ.

مشاركة المقال عبر