عندما بدأت ثورات الشعوب في الدول العربية، استبشر السوريون خيراً، على أمل الانتهاء من الظـ ـلم الذي كانوا يعيشونه منذ قرون، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن السوريين، فبدأت جمـ ـاعات الإسـ ـلام السياسي بتنـ ـفيذ الأجنـ ـدات الخارجية، فتحولت الثورة السورية إلى أزمـ ـة وحـ ـرب طـ ـائفـ ـية لن يستطيع السوريون تجاوزها لعقود قادمة من الزمن.
عندما بدأت ثورات الشعوب ابتداءاً من تونس عام 2010، سرعان ما انتقلت إلى الدول المجاورة كمصر وليبيا، واليمن، حتى وصلت إلى سوريا في الـ 15 من آذار عام 2011، حيث استبشر السوريون خيراً للتخلص من الظلم الذي كان يفرضه حزب البعث والأفرع الأمنية التابعة للحكومة السورية، واستيلاءهم على مقدرات البلاد وخيراتها وحرمان السوري من أبسط حقوقه. فنزل الآلاف في عموم المدن إلى الساحات وطالبوا بالعدالة والحرية والحقوق، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً، حيث تدخل جماعات الإسلام السياسي وخصوصاً الإخوان المسلمين على الخط، وحاولت خطف الثورة.
ومع تدخل جماعات الإسلامي السياسي على الخط، دخلت تركيا وقطر أكبر داعمين للإخوان المسلمين في الدول العربية على الخط أيضاً، فأنشأت تركيا قواعد لتدريب المسلحين من الإخوان وأرسلتهم تباعاً إلى سوريا، وأمدت بالأسلحة والذخيرة، فتحولت الثورة السورية السلمية إلى العسكرة، وهذا ما فتح الطريق أمام قوات الحكومة السورية لاستخدام السلاح بشكل مفرط، ما أدى لسقوط نحو نصف مليون قتيل من الشعب السوري في معركة على السلطة بين الإخوان المسلمين ومن وراءهم قطر وتركيا وبين الحكومة السورية المتمسكة بالسلطة.
كما تهجر نصف السوريين من ديارهم وأصبح نصف المتبقين نازحين داخل بلادهم، فيما أجريت عمليات تغيير ديمغرافي واسعة النطاق على أيدي الطرفين.
ومع استمرار المعارك، فتحت تركيا مطاراتها لاستقبال العناصر الجهادية من مختلف أنحاء العالم وسهلت عبورهم إلى سوريا للانضمام إلى جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) وتنظيم الدولة الإسلامية، حتى باتت سوريا مرتعاً لأبناء الشيشان والقوقاز والإيغور والتركستان. وقدمت تركيا دعماً لا محدوداً لهؤلاء من أجل إسقاط الحكومة السورية، فالرئيس التركي حالياً رجب طيب أردوغان كان حينها رئيساً للوزراء وكان يمني النفس بالصلاة في الجامع الأموي، وكان يقول قريباً بأنه سيصلي في الجامع الأموي، لأنه وضع كل ثقله وراء تلك المجموعات من أجل إسقاط الحكومة السورية حتى يتسنى له احتلال الأراضي السورية والوصول إلى حدود ما يسميه الميثاق الملي. فأردوغان يرى الدول العربية جزءا من الدولة العثمانية البائدة ويريد احتلالها مجدداً ولذلك استغل ثورات الشعوب في العالم العربي وبدأ بدعم الإخوان في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان، ولكنه فشل في مصر ومن ثم تونس ولم يبقى في يديه شيء سوى أجزاء من سوريا وليبيا.
كما أنشأ أردوغان مخيمات للاجئين السوريين بحجة أنهم أخوة ولكنه حصرهم في الزاوية إذ لم يسمح لهم بالخروج من تلك المخيمات إلا إلى القواعد العسكرية التي أنشأها من أجل تدريب المسلحين، وبذلك قام بتجنيد السوريين النازحين وحولهم إلى مرتزقة يقاتلون من أجل مصالحه في سوريا وليبيا وأذربيجان وأفريقيا وأي مكان يريد.
وفي تلك الأثناء قامت تلك المجموعات المسلحة بارتكاب الفظائع بحق السوريين في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، فقطعوا رؤوس العلويين واصفين إياهم بالنصيرية، كما قاموا بارتكاب الجرائم بحق الكورد تحت مسمى إنهم كفار، فكان قادة تلك الفصائل التابعة للائتلاف يخرجون على الملأ ويعلنون إنهم سيبيدون الكرد كما فعل عبد الجبار العكيدي في ريف حلب، وبدأ مسلسل تهجير الكورد من أراضيهم التاريخية في ريف حلب تطبيقاً للمخططات التركية.
ولكن عندما فشل مخطط أردوغان بإسقاط الحكومة السورية عقب التدخل الروسي في أيلول عام 2015، دعماً للحكومة السورية، غير أردوغان من سياسته في سوريا أيضاً، إذ بدأ بالتعاون مع روسيا وعقد الصفقات معها، ووجه أنظاره هذه المرة إلى إبادة الكورد والسيطرة على أراضيهم في سوريا مستغلاً اتفاقية أضنة الأمنية مع الحكومة السورية، وتخلى كلياً عن فكرة إسقاط الحكومة السورية، ولذلك بدأت الجماعات التي دربها بالهجوم على المناطق الكوردية، وعندما فشلت تلك الجماعات، بدأ أردوغان بتحريك الجيش التركي عبر الصفقات مع روسيا، فمنح حلب للحكومة السورية مقابل جرابلس والباب وإعزاز، ومن ثم استمر بالمقايضات مع الرئيس الروسي بوتين الذي كان مراوغاً واستطاع أن يعرف نقطة ضعف أردوغان، فكان يهدده بالكورد، ويعقد الصفقات معه على حساب فصائل المعارضة.
وعليه بدأت ما تسمى اجتماعات أستانا مطلع عام 2017، حيث تم تشكيل 4 مناطق خفض تصعيد كان تسيطر عليها الجماعات الموالية لتركيا، فتوقفت المعارك في الجبهات بناء على الأوامر التركية، فيما انفردت قوات الحكومة السورية والقوات الجوية الروسية بهذه المناطق الواحدة تلو الأخرى، ولم يبقى منها إلا منطقة واحدة خاضعة في غالبيتها لسيطرة هيئة تحرير الشام، فيما تحولت الفصائل التي كانت تطلق على نفسها اسم فصائل المعارضة والثوار، إلى ثلة من المرتزقة الذين يقاتلون من أجل تركيا ويضعون العلم التركي ويستخدمون عملتها وبريدها ويعلمون أبنائهم لغتها في مدارس ونسوا أنهم عرب وأن ما تفعله تركيا هو خطر عليهم أنفسهم.
وبذلك حوّل أردوغان وجهة تلك الفصائل من مقاتلة الحكومة السورية، إلى مقاتلة الكورد فقط، وبات اليوم الهم الوحيد لتلك الفصائل كيفية قتل الكورد والاستيلاء على ممتلكاتهم، وبذلك تحولت الثورة السورية إلى حرب طائفية تديرها تركيا وتحاول فيها قتل الكورد بأيدي العرب في سياسة قديمة اتبعتها الدولة العثمانية في إبادة الشعوب والتي لا تزال الشعوب تدفع ثمنها إلى اليوم الحاضر رغم مرور أكثر من قرن على التخلص من ذلك الاحتلال الذي لم يخلف سوى الفقر والجهر.
اليوم مع مرور ثلاثة عشر عاماً على ذلك الحراك الذي كان السوريون يتأملون منه خيراً، أصبح أكثر من 90 % من السوريين يعيشون تحت خطر الفقر ولا تستطيع العديد من العوائل معرفة فيما إذا كانت قادرة على تأمين وجبة الطعام التالية أم لا، في حين أن الشعب السوري الذي حصل على التعاطف الدولي والعربي، فقد ذلك التعاطف، حيث توقفت دول أصدقاء سوريا عن تقديم الدعم السياسي والمادي فتوقفت المساعدات التي كان يحصل عليها السوريون الفقراء، وباتت الأزمة السورية اليوم تتذيل قائمة الأزمات التي يعيشها العالم ولم يعد أحد يهتم بها لأن تركيا حرفت الثورة نحو تحقيق مصالحها.
ليس هذا فقط، فالعديد من الدول باتت ترى في الفصائل التي تدعمها أنقرة فصائل مجرمة ووضعتها على قائمة الإرهاب، كما فعلت الولايات المتحدة مع الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية، حيث أدرجت هذه الفصائل وقادتها مثل أبو عمشة وبولات على قائمة العقوبات، فيما بدأت المنظمات العالمية بالخروج عن صمتها حيال جرائم تركيا في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا.
وأصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش في نهاية شباط الفائت تقريراً حول جرائم تركيا وفصائلها في المناطق التي يسيطرون عليها، وقالت إن المناطق التي تعتبرها تركيا آمنة ليست آمنة بل أن كل شيء يحصل فيها بقوة السلاح، وقالت إن تركيا مسؤولة عن الجرائم التي ترتكب في المناطق التي تسيطر عليها على اعتبارها قوة احتلال، وقالت إن ما تفعله القوات التركية والفصائل التابعة لها ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
واليوم بدأت الخلافات تتصاعد بين الفصائل المرتبطة بتركيا وخصوصاً فصائل الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، وكل طرف يحاول لي ذراع الطرف الثاني، ولذلك شهدنا أمس قطع الطريق أمام موكب مسؤول استخباراتي تركي يرافقه رئيس الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف عبد الرحمن مصطفى ورئيس الائتلاف هادي البحرة أثناء مرورهم في بلدة سجو بريف إعزاز في حلب.
يبدو أن السوريين ورغم تأخر الوقت باتوا يدركون أن تركيا كانت السبب في تحريف ثورتهم وإنهاءها وجعلهم مهجرين ونازحين لا يرون ما يسدون به رمق المعيشة.