في زيارته إلى العاصمة السورية دمشق في 12 مايو 2021، أعلن وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف عن افتتاح القنصلية العامة الإيرانية في مدينة حلب، الواقعة شمال البلاد، بموافقة رئيس النظام السوري بشار الأسد بهدف توسيع نطاق التعاون بين البلدين. ومثّل افتتاح القنصلية في 22 مايو الفائت، إعلاناً واضحاً عن نوايا إيران المستقبلية في سوريا، لعل أبرزها عدم الخروج من البلاد بشكل كامل، والتأسيس لتمركز اقتصادي في حال جوبه وجودها العسكري بضغوط أكبر خلال الفترة المقبلة.
إيران في حلب: مركزية العامل الاقتصادي
يعكس الإعلان عن افتتاح قنصلية في حلب وجود عناصر جديدة في الاستراتيجية الإيرانية التي باتت تدرك أن هناك توجهاً عاماً لإخراجها من سوريا، لذلك بدأت تسعى إلى تثبيت وجودها من خلال استبدال الأدوات أو على الأقل خلق دوائر رسمية تُدير من خلالها مجموعة مصالحها. وتملك إيران وميليشياتها سيطرةً قوية في حلب، حيث شاركت هذه الميليشيات في استعادة السيطرة وكان لها اليد العليا في ذلك، الأمر الذي مكّنها من التحكّم بمعظم أرجاء المدينة عسكرياً وخدمياً، حتى باتت قوات النظام ومديرياته الخدمية، وأفرعه الأمنية، مأمورةً منها.
ويؤشر افتتاح القنصلية الإيرانية في حلب إلى أن المدينة أصبحت تضم جاليةً إيرانية كبيرة، وقد عملت إيران على خلق هذه الجالية بجهد متواصل منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا. وتتكون هذه الجالية من عناصر ميليشيات محلية وأجنبية، ويحمل الكثير من هؤلاء جنسيةً مزدوجة سوريةً وإيرانية في آن معاً.
وسعت طهران خلال السنوات الماضية، إلى تعويض الأموال التي قدمتها لدمشق بعد عام 2011، وحاولت السيطرة على قطاعات اقتصادية عديدة شملت في بعض منها توقيع اتفاقيات تعاون مشترك بين طهران ودمشق في مجالات الزراعة، والثروة الحيوانية، والصناعة، والنفط. كما أنها حصلت على استثمارات استراتيجية في مناجم الفوسفات بمنطقة خنيفيس (قرب محافظة حماة وسط سوريا)، وعقود لبناء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص، كما ساهمت الشركات الإيرانية في توقيع عقود مهمة لأغراض إعادة الإعمار.
إلا أن التبايُن في التمركز الإيراني مع الاستراتيجية الروسية بالنسبة للاقتصاد السوري، عرقل مساعي إيران الاقتصادية بشكل كبير خلال المرحلة السابقة، لاسيما أن الضغوط التي واجهتها طهران في تلك الفترة وأثرت بشكل كبير على وضعها الاقتصادي حالت دون أي تطوير لحضور إيران الاقتصادي في الساحة السورية.
وبهذا فإن أحد أهداف طهران من فتح قنصلية في حلب تتمثل في دفع عجلة الوجود الاقتصادي الإيراني، خصوصاً في ظل مواجهة إيران ضغوطاً عسكرية في سوريا تبرز من خلال ضرب الطيران الحربي الإسرائيلي لأهداف عسكرية تابعة لها، كما تواجه ضغوطاً سياسية تتمثل في بحث الوجود العسكري الإيراني في سوريا مقابل إعادة تفعيل الاتفاق النووي.
أيضاً، فقد سعت روسيا منذ مدة إلى الاستئثار بالقسم الأكبر من الاستثمارات في سوريا، لاسيما تلك المتعلقة بالنفط والغاز وملفات إعادة الإعمار دون الالتفات إلى الاتفاقات الموقعة بين طهران ودمشق، وهو ما قد يزيد من صعوبة موقف الإيرانيين في سوريا حيال مساعيهم في استمرار نفوذهم خلال مرحلة إعادة الإعمار، خاصة وأن روسيا قد تدفع هي الأخرى إلى تحجيم النفوذ الإيراني العسكري بالتماهي مع الالتزام الأمريكي والعربي بضرورة تنفيذ هذا التحجيم، لذا فإن طهران قد تجد في القنصلية متنفساً اقتصادياً مهماً لها في سوريا إذا ما تم رفع مستوى الضغوط عليها فيما يتصل بالوجود العسكري.
وخلال الفترة الماضية طرأت مجموعة من المتغيرات على المشهد الاقتصادي في حلب، كان من أبرزها وصول مجموعة من التجار المقربين من إيران إلى قيادة غرفة التجارة في المحافظة، ما يتيح لهم السيطرة على علاقات الإنتاج والنقل. وجاء ذلك بعدما تعرضت القاعدة التقليدية للمجتمع الاقتصادي في حلب إلى ضغوط وانتكاسات أدت إلى إقصاء أبرز عناصرها، سواء عبر الإفلاس أو إبعاد من تبقى من تلك القاعدة؛ ليخلو المشهد الاقتصادي هناك لطبقة رجال الأعمال الجدد.
كل العوامل السابقة يمكن اعتبارها من بين أهم مسوغات اشتغال إيران على مسار التمدد الاقتصادي في حلب بعد أن تحولت أسواق إيران إلى واحدة من الخيارات المحدودة للاستفادة منها في تأمين المواد الخام وقطع الغيار، خاصة وأن إيران لا تلتزم بأية عقوبات مفروضة على سوريا تحد من حركة التجارة والاستيراد، ولديها تحكم كبير في طرق التهريب بين دول المنطقة التي تتصل بها براً، عبر طرق استراتيجية تُثبّتها إيران وتعمل من أجل المحافظة عليها؛ كخط دفاع أخير عن أموالها التي دفعتها في سوريا وتريد استردادها.
أهداف إيرانية استراتيجية أخرى
إضافة إلى ما سبق، تهدف إيران من وراء إنشاء القنصلية في حلب إلى تحقيق مجموعة أخرى من الأهداف، أهمها:
توسيع عمليات التشيّع في حلب وجوارها، وتشكل المناطق الفقيرة في حلب هدفاً لحملات التشيع، وبخاصة أن النظام السوري يُمعِن في معاقبة سكان هذه المنطقة، كما أن روسيا رفعت يدها عن حماية هؤلاء، الذين يضطرون للجوء إلى الميليشيات الإيرانية لحمايتهم من أجهزة النظام الأمنية والحصول على بعض المساعدات العينية. ويتركز اهتمام حملات التشيّع الإيرانية على منطقة شرق حلب، وعاصمتها مدينة مسكنة؛ فسكان هذه المنطقة من المؤيدين للنظام السوري، وقد انخرطوا في الميليشيات التي تدعمها إيران، وبعد انتهاء الحرب في مناطقهم عاد جزء كبير منهم إلى حياتهم المدنية. وتسعى إيران إلى التقرب منهم من خلال عقد اجتماعات دورية مع زعماء عشائر المنطقة ووجهائها المحليين، وبحسب مصادر من المنطقة لم تحقّق إيران حتى اللحظة أي مكاسب في هذه المنطقة لكنها لم تواجه أيضاً صَداً من قبل السكان المحليين.
ولن يقتصر عمل القنصلية الإيرانية على حلب وريفها، بل سيشمل مناطق واسعة شرقاً وغرباً، وخاصة ريف حماة الشمالي، حيث تنشط حركة شراء أراض في هذه المنطقة لصالح شخصيات إيرانية، بالوساطة، عن طريق سوريين مُوالين لها، وخاصة في مدينة مورك الواقعة على طريق حلب-دمشق الدولي، كما تشتهر المنطقة بزراعة الفستق الحلبي، الذي تضع إيران عينها للسيطرة على مناطق إنتاجه الممتدة بين حماة وإدلب وحلب، ويُعتبر من أجود أنواع الفستق في العالم، وكانت سوريا قبل الأحداث تحتل المركز الرابع عالمياً في إنتاج الفستق، وتستغل إيران غياب أصحاب هذه الأراضي ووجودهم في مخيمات اللجوء في إدلب وخارج سوريا، الأمر الذي ينذر بحصول تغيير ديمغرافي في هذه المنطقة.
وسيؤدي افتتاح القنصلية الإيرانية في حلب إلى تعزيز الشبكة الاستخباراتية لـ “الحرس الثوري” الذي يدير مشروع التمدد الإيراني في سوريا، بحيث يكون هناك بنك معلومات أمنية وعسكرية واقتصادية، بالتوازي مع تنظيم تلك الشبكة لملفات الميليشيات التابعة لإيران في الشرق والشمال السوري، وتحديد أولويات عملها خلال الفترة الحالية وتنسيق الواردات المحلية التي تصلها. ووجود رأس لشبكة أمنية في حلب التي تمثل مركز وجود مهم للمليشيات الإيرانية، سيكون خطوة تقنية تعود بالنفع على مشروع طهران التوسعي في سوريا، من أجل تحديد آلية التعامل المحلي مع تلك المليشيات في تلك المناطق خلال الفترة المقبلة؛ خاصة في ظل توقعات بحصول تطورات قد تُغيّر من المشهد العسكري.
مُحاربة إيران المدّ التركي، حيث باتت أنقرة منافساً لا يمكن تجاهله على مساحات واسعة من شمالي سوريا وشماليها الشرقي، ولا بد لطهران من مظلة أو واجهة لتحركاتها في منطقة ذات بعد عسكري واقتصادي واستراتيجي ومُتاخِمة لتركيا بحدود برية طويلة. وترسيخ الوجود الإيراني في حلب يعني ضمان بقاء المدينة تحت السيطرة الإيرانية، حتى لو عادت العلاقات السورية-التركية إلى سابق عهدها، والمعلوم أن إيران كانت أشد المتضررين من انفتاح العلاقات بين تركيا وسوريا في مرحلة ما قبل 2011، وذلك لعدم قدرتها على منافسة المنتجات التركية، كما أن المزاج الشعبي في حلب كان يميل صوب تركيا.
ماذا بعد؟
المشكلة أنه لا توجد حتى اللحظة مواجهة حقيقية مع المشروع الإيراني في حلب، ويُرجح الخبراء أن الإيرانيين سينجحون في مشروعهم لتغيير هوية حلب العربية والإسلامية، ما دامت لا توجد قوة قادرة على إخراجهم منها. لكن في المقابل، ثمّة من يرى بارقة أمل من خلال المقاومة التي يُبديها عددٌ من علماء حلب غير الموالين للنظام السوري والإيرانيين، وقد فضّل هؤلاء البقاء في المدينة رغم المخاطر للدفاع عن حلب أمام هذا المد الشيعي، كما أن اعتماد الإيرانيين على العائلات الفقيرة في مدينة حلب لا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تغيير عقيدة الحلبيين، حيث يوجد في حلب الزوايا الصوفية والمدارس الشرعية التي ترفض بالمطلق المشروع الإيراني.
وفي السياق ذاته، طالبت حركة “العمل الوطني من أجل سوريا”، وهو عضو مؤسس في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة وغالبية قياداتها من حلب، بضرورة العمل على خلق جهد عربي مشترك ضد إيران في سوريا، وقالت إن إعلان إيران عن افتتاح قنصلية لها في حلب يُعد جزءاً من هيمنتها على حاضنة سوريا الاقتصادية، وتأكيداً لتمددها أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
وفي جانب آخر، من المُرجَّح أن المشروع الاقتصادي لإيران من أجل التحضير لمرحلة إعادة الإعمار، والذي يمثل افتتاح قنصلية لها في حلب مؤشراً عليه، سوف يصطدم بالمطامح التركية التي تسعى بحكم قُربها من حلب إلى توريد مستلزمات إعادة إعمار المنطقة بالشراكة مع الجانب الروسي، انطلاقاً من تفاهمات الطرفين المؤسس لها منذ سنوات، لذا فإن دخول إيران اقتصادياً إلى حلب يعني منافسة لتركيا التي تريد أن تحفظ حصتها بشكل وازن إلى جانب روسيا.
والمتوقع أن تكون القنصلية الإيرانية في حلب عاملاً مُزعزعاً للعلاقات التركية-الإيرانية في هذه المدينة السورية المهمة، بل وقد تكون هذه القنصلية واحداً من المسامير التي ستدق في نعش مسار أستانا، والذي لطالما سعت الولايات المتحدة إلى إنهائه، وربما تغدو الظروف مواتية لطي صفحته خلال الفترة المقبلة، لاسيما أن التنسيق الروسي-التركي الثنائي خلال العام الماضي عمل على تحجيم الدور السياسي لإيران في سوريا، ما قد يكون دافعاً لطهران أيضاً إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي هناك ضمن معادلة مصالح جديدة تقتضي التقارب مع الولايات المتحدة مُقابل تحجيم نفوذ طهران العسكري، مع مَنْحِها ضوءاً أخضر للتوسع الاقتصادي في سوريا.
مالك الحافظ – مركز الإمارات للسياسات