في منتصف أيار/مايو، التقى زعيم الجماعة الجهادية «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني (المعروف أيضاً باسم أحمد الشرع)، بمجموعة من مشايخ القبائل والعشائر السورية للاحتفال بعيد الفطر. ولطالما سعى الجولاني إلى الظهور بمظهر رجل دولة من خلال الاختلاط مع جهات فاعلة متعددة في المجتمع السوري، إلا أنّ تواصله مع القبائل يندرج ضمن إطار استراتيجية مشاركة وتكامل أكثر شمولاً تهدف إلى دعم قاعدة سلطة جماعته في محافظة إدلب. وقبل عام، عقد اجتماعاً مماثلاً مع القبائل خلال شهر رمضان، ومنذ ربيع هذا العام، ألقت «هيئة تحرير الشام» المزيد من الضوء على تعاونها مع “مجلس القبائل والعشائر”، وهي هيئة في إدلب تم تشكيلها في أواخر حزيران/يونيو 2018. ورغم أن هذا التواصل ليس سوى أحدث مثال على جهود «هيئة تحرير الشام» لتوطيد سيطرتها على المحافظة، إلا أنه يبيّن أيضاً مدى هشاشة هذه السيطرة، حيث يتعيّن على الجماعة الاعتماد على مصادر سلطة أخرى لإضفاء الشرعية على سلطتها المحلية.
قبائل إدلب والانتفاضة السورية
في إدلب، تهيمن ثلاث قبائل – «الموالي» و «بني خالد» و«الحديدين» – إلى جانب قبائل وعشائر أخرى أصغر حجماً. وكانت بعض عناصر هذه القبائل والعشائر قد دعمت النظام، في حين أيّد بعضها الآخر المعارضة.
على سبيل المثال، كان لبعض رجال القبائل علاقات محسوبية مع نظام الأسد قبل الانتفاضة وبقوا أوفياء لدمشق، على غرار أحمد درويش من عشيرة «بني عزّ»، وهو عضو سابق في مجلس الشعب أنشأ ميليشيا موالية للنظام. وبالمثل، حارب بعض أعضاء قبيلة «الحديدين» إلى جانب الميليشيا الموالية للنظام التي أسسها أحد رجال القبيلة، وزير الدفاع فهد جاسم الفريج. وعندما سيطرت «جبهة النصرة»، الجماعة التي سبقت «هيئة تحرير الشام»، على منطقة إدلب، استهدفت تلك الشخصيات الوفية للنظام – حيث تمّ إعدام درويش، وقطع رأس نايف الصالح من قبيلة «الحديدين» لمساعدته جنود النظام في “مطار أبو الظهور”.
ومع ذلك، كان للعديد من العناصر القبلية الأخرى تاريخ مثير للجدل مع عائلة الأسد قبل الحرب أو أنها لم تجنِ الفوائد نفسها التي تمتّع بها بعض الموالين للعائلة، لذلك انضمت إلى المتمرّدين. على سبيل المثال، حتى عندما انضمّ بعض عناصر «الحديدين» إلى ميليشيا الفريج، أدانه أعضاء آخرون لتعاونه مع النظام. وذهبت بعض عناصر قبيلة «الموالي» إلى أبعد من ذلك، حيث شكلت “كتيبة الموالي” المقاتلة المتمردة في أوائل شباط/فبراير 2012. وحذت قبيلة «بني خالد» حذوها، وشكّلت عدة كتائب مرتبطة بـ «الجيش السوري الحر».
«جبهة النصرة» والقبائل
خلال السنوات التي نشطت فيها «جبهة النصرة» قبل أن تصبح «هيئة تحرير الشام» (في الفترة 2012-2016)، لم تفعل سوى القليل للإعلان عن علاقاتها مع أفراد القبائل. ولم يخل الأمر من بعض الحالات المنفردة – ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، التقت عناصر «جبهة النصرة» علناً مع عشائر في القنيطرة لمناقشة وسائل محاربة التواجد المحلي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية».
مع ذلك، فمن المعروف على نطاق واسع أن أحد أسباب تمكّن «جبهة النصرة» من ترسيخ موطئ قدم لها في المراحل الأولى من الحرب في أجزاء من محافظة دير الزور شرقاً كان قدرتها على الاستفادة من شبكات تعود إلى حقبة تجنيد المقاتلين الأجانب خلال حرب العراق في 2003. وعلى وجه الخصوص، أصبحت بلدة الشحيل – حيث كانت تتمركز عشيرة البوكمال من قبيلة العقيدات – داعماً رئيسياً للجهاد بعد تجنيد العديد من السكان المحليين هناك للقتال في العراق. وانضمّ لاحقاً العديد من هؤلاء الأفراد إلى «جبهة النصرة». وهذه الانتماءات – إلى جانب واقع تواجد منشآت النفط الرئيسية في سوريا في دير الزور – قد مكّنت القبائل التي تقرّبت من «جبهة النصرة» جني فوائد أكبر. في المقابل، كثرت مظالم القبائل والعشائر التي لم تستفد من هذه الامتيازات (على سبيل المثال، قبيلة الباقر) حيث تمكّن تنظيم «الدولة الإسلامية» من استغلالها عندما حل في النهاية محل «جبهة النصرة» وسيطر على المنطقة. وهكذا، في حين أن العديد من التطورات المحلية بدت من الخارج وكأنها جوانب من الحرب الأيديولوجية الأوسع بين تنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة»، إلا أنها كانت مرتبطة عملياً بشكل أكبر بالمنافسات القبلية/العشائرية.
أما بالنسبة لمحافظة إدلب، فلم تجمع «جبهة النصرة» علاقات جيدة مع رجال قبيلة «الموالي» المحلية في البداية بسبب الأساليب العنيفة التي استخدمتها «الجبهة» في محاولتها الفاشلة لإخضاعهم. ولاحقاً، حاولت «هيئة تحرير الشام» استمالة عشائر «الشوايا» ضمن قبيلة «الموالي» التي لم تكن جزءاً من القيادة التقليدية (“الأصل”)، إلا أن هذه الحيلة فشلت أيضاً. وربما تكون «جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام» قد اعتبرتا أن قبيلة «الموالي» تطرح تهديداً لأنها تنحدر في الأصل من منطقة “معرة النعمان” التي تعدّ أحد معاقل الثورة، مما يعني على الأرجح أن العديد من رجال القبائل لديهم قيم تختلف عن تلك التي يعتقدها الجهاديون.
ومع ذلك، انخرط بعض أفراد قبيلة «الموالي» مع «هيئة تحرير الشام» عندما تأسس “مجلس القبائل والعشائر”. وخلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أصدروا بياناً شكروا فيه الجماعة على جهودها في المحافظة.
مجلس العشائر في إدلب
كان تشكيل “مجلس القبائل والعشائر” ثمرة مؤتمر عُقد في كانون الثاني/يناير 2018 برعاية “حكومة الإنقاذ السورية”، التي هي الهيئة المدنية الرئيسية لـ «هيئة تحرير الشام». وعندما تمّ تشكيل المجلس رسمياً في حزيران/يونيو من ذلك العام، كان يضم 125 فرداً من القبائل والعشائر التالية: «الموالي»، «بني خالد»، «البكير»، «الدمالخة»، «البو شعبان»، «العقيدات»، و«رشا»، «المشاهدة»، «النعيم»، «طيئ»، «اللهيب» و«الدليم» (وقد يكون قد تمّ تمثيل عشائر أخرى أيضاً). كما جرى اختيار عبد المنعم ناصيف رئيساً للمجلس ولا يزال يحتفظ بمنصبه هذا حتى اليوم.
وحتى ربيع هذا العام، انطوى الجزء الأكبر من نشاط المجلس المباشر على إصدار بيانات حول مواضيع تتعلق بإدلب أو الثورة، وعقد اجتماعات دورية، ومساعدة “سرايا المقاومة الشعبية”، الجماعة الواجهة لـ «هيئة تحرير الشام»، على تجنيد مقاتلين وحفر خنادق قبل اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في إدلب في ربيع 2020.
وفي أوائل آذار/مارس 2020، أنشأ المجلس هيئة جديدة تدعى “مجلس الصلح العام”. وتحت إدارة [الشيخ] أنور طه الزعبي، باشر المجلس أعماله في تشكيل ثلاث لجان في مناطق مختلفة من إدلب لممارسة أعماله. وبذلك، يكون قد أعاد “العرف” باعتباره أسلوب الحكم المحلي الرئيسي. وعلى الرغم من تعاون هذه اللجان مع مؤسسات «هيئة تحرير الشام»، إلا أن تشكيلها كمصدر بديل للسلطة يُظهر حدود قوة «هيئة تحرير الشام» محلياً – ومن هنا مساعي الجماعة المتزايدة لاستمالة هذه الهيكليات في الأشهر الأخيرة.
«هيئة تحرير الشام» والقبائل في إدلب
منذ عام 2018، استخدمت «هيئة تحرير الشام» و”حكومة الإنقاذ” وسيلتين رئيسيتين للانخراط مع القبائل المحلية: إرسال رئيس مجلس الوزراء في “حكومة الإنقاذ” علي كده لعقد اجتماعات مباشرة مع الوفود القبلية، وحضور جلسات “مجلس الصلح العام”. وفي الآونة الأخيرة، حاولت «هيئة تحرير الشام» تعزيز الروابط القبلية ضمن مؤسساتها الخاصة بدلاً من الاعتماد فقط على جهود الانخراط ضمن مجلسيْ القبائل والصلح.
ففي كانون الأول/ديسمبر على سبيل المثال، قام أعضاء من المجلس القبلي الرئيسي بزيارة إحدى منظمات «هيئة تحرير الشام» (“مركز الهدى للدعوة”) للمشاركة في معرض نُصرة للنبي محمد، في إطار مسعى لتوعية محلية أوسع نطاقاً أطلقته «هيئة تحرير الشام» بعد الإهانات الفرنسية للنبي في فصل الخريف. وبالمثل، نظمت هيكلية الإدارة البلدية لـ «هيئة تحرير الشام» تُدعى “إدارة المناطق المحررة في ريف جسر الشغور” فعاليتين على الأقل موجهة نحو القبائل، وهما: منتدى في أيلول/سبتمبر 2020 حول “دور الشعر النبطي في الثورة السورية” وآخر قبل أيام قليلة فقط بعنوان “القبائل والعشائر في الثورة السورية: بين الأصالة والبسالة”.
وفي غضون ذلك، عندما التقى كده بشخصيات قبلية في شباط/فبراير الماضي، شدّد على أنه يتعيّن على “حكومة الإنقاذ” تعزيز العلاقات معهم. ومنذ ذلك الحين، أظهرت وزارة الداخلية ووزارة الاقتصاد والموارد في الحكومة مؤشرات إضافية على محاولة تلبية احتياجات المجتمع.
ومع ذلك، تشير المصادر المحلية إلى أن الكثير مما تحاول «هيئة تحرير الشام» والوحدات التابعة لها القيام به هو شكلي وقسري أكثر منه خيري، ويرمي إلى مساعدة الجماعة على أن تبدو ممسكة بزمام الأمور بخلاف ما هي عليه الحالة على أرض الواقع. كما يُظهر واقع محاولة «هيئة تحرير الشام» الانخراط في أنشطة المجلس القبلي وتعزيزها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها ضمن هيكلياته الخاصة، مدى حاجة هذه الجماعة إلى القبائل – ولو كانت «هيئة تحرير الشام» أقوى، لكانت على الأرجح قد تجاهلت الديناميكيات القبلية كما فعلت في السابق.
إن جميع هذه التطورات وثيقة الصلة إلى حدّ كبير بمناقشات السياسة المتجددة في الغرب فيما يتعلق بالمشاركة المحتملة مع «هيئة تحرير الشام». وإذا اختارت واشنطن أو حكومات غربية أخرى التواصل مع الجماعة، عليها القيام بذلك بمعرفة كاملة لتداعيات هذا القرار. فهي بذلك لن تكون قد سمحت لـ «هيئة تحرير الشام» بالتخلي عن مسؤوليتها من انتهاكاتها الإرهابية ونشاطها المتطرف فحسب، بل ستكون قد مكّنت أيضاً جماعة لا تحظى بأي شعبية في أوساط الناشطين المؤيدين للديمقراطية وغيرهم من العناصر المحلية.
هارون زيلين – زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن، وباحث زائر في “جامعة براندايز”.