ليس اليوم، بل منذ عام 2016، باع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غزة، عندما أعاد في حزيران ذلك العام تطبيع العلاقات مع إٍسرائيل وفي ذات الوقت تقدم بالاعتذار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقـ ـاط طائرة روسية على الحدود السورية التركية نهاية عام 2015.
أردوغان الذي عاد إلى الحضن الإسرائيلي بعد تمثيليات عديدة أظهر فيها نصرته للقضية الفلسطينية ووقوفه ضد إسرائيلي، لم يكتف حينها بالتنازل عن مطلب رفع الحصار عن غزة بل سلم حماس إلى المقصلة بثمن بخس قوامه أن يبعد النار عن حدوده ويزيح القلاقل الداخلية عن حكمه. فأردوغان باع كل التزاماته السياسية الكلامية تجاه غزة والقضية الفلسطينية عموماً في مقابل أن يحافظ على مصالح تركيا.
تركيا أردوغان فقدت منذ فترة طويلة نصرتها للقضية الفلسطينية، الحرب تستمر الآن بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية منذ شهر، وطيلة 20 يوماً بقي أردوغان صامتاً رغم ضغوط قاعدته الشعبية ذات الفكر الإخواني حيال ما يجري.
صحيح أن أردوغان ألقى رسالة في اجتماع المجموعة البرلمانية لحزبه قبل نحو 10 أيام، وقال بأن حماس ليست إرهابية، إلا أنه قال بأنه ليست لديهم مشكلة مع إسرائيل.
تصريحات أردوغان هذه ليست هي تصريحاته الأمس تجاه إسرائيل، ففي قمة دافوس للمنتدى الاقتصادي العالمي، في 29 كانون الثاني 2009، قاطع رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز وغادر المنصة، وحينها ظن الفلسطينيون أنه نصير لهم، ولكن اليوم كل شيء ظهر على الحقيقة فكما يقول المثل العامي “داب التلج وبان المرج”.
بعد ذلك بعام، وصل التوتر بين أردوغان وإسرائيل إلى نقطة الغليان عندما تعرضت سفينة مافي مرمرة التي ترفع العلم التركي، والتي كانت من ضمن أسطول كان يهدف إلى اختراق الحصار الإسرائيلي على غزة وايصال مساعدات إلى القطاع. في أيار 2010، لهجوم قوات كوماندوس إسرائيلية ما أدى لمقتل 10 أتراك وإصابة 50 آخرين واعتقال باقي الركاب.
هذه المرة، لم يكن ممكناً حل الخلاف ودياً. تم خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتركيا، وعُلق التعاون العسكري، وشهدت العلاقات التجارية انقطاعاً مؤقتاً. واتُخذت إجراءات لرفع قضايا قانونية أمام المحاكم التركية ضد أربعة إسرائيليين، من بينهم رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابرييل أشكنازي. إلا أن القضايا أُسقطت عام 2016 عندما وافقت تل أبيب على تعويضات الضحايا بـ 20 مليون دولار.
مع ذلك، استمر أردوغان في الظهور كمدافع رئيسي عن القضية الفلسطينية، ولاحقاً زجت تركيا بنفسها خلف الأحزاب والفصائل الإسلامية.
ومع امتداد الاضطرابات إلى سوريا المجاورة – أكثر الدول العربية دعماً للقضية الفلسطينية – فوجئ كثيرون بموقف أردوغان الداعي إلى «تغيير النظام»، خصوصاً في ظل العلاقات القوية التي كانت تربط دمشق بأنقرة واعتماد الحكومة التركية سياسة «صفر مشكلات» مع جيرانها.
في نهاية المطاف، وصلت رومانسية العرب بأردوغان إلى نهاية صادمة عندما وجه اتهاماً طائفياً مذهلاً، واصفاً حكم الرئيس السوري بشار الأسد بأنه «ديكتاتور نصيري» (وهو مصطلح مهين لأتباع الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد والنخبة السياسية والعسكرية) مديناً اضطهاد الأغلبية السنية من السكان.
انزلقت سوريا إلى حرب أهلية وفوضى، وظهرت انقسامات حادة بين رعاة جماعات المعارضة المسلحة، بما في ذلك تركيا ودول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا. ونتيجة لذلك، وجد أردوغان نفسه معزولاً بشكل متزايد في المنطقة، مع استثناء ملحوظ لقطر باعتبارها حليفاً عربياً قوياً متعاطفاً مع جماعة الإخوان المسلمين.
اليوم أصبحت عبارة «دقيقة واحدة» التي قالها أردوغان في دافوس و«حادثة الأسطول» من الماضي. على مر السنين، تكشفت أمور كثيرة، من بينها التجارة المزدهرة بين تركيا وإسرائيل، على رغم من خطاب أردوغان السابق ومواقفه المناهضة لإسرائيل.
فقد شهد حجم التجارة التركية – الإسرائيلية على مدى العقدين الماضيين زيادة مذهلة بنسبة 532%، ليصل إلى 8.91 مليار دولار عام 2022. في اللقاء الأول منذ تحسن العلاقات بين اردوغان ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، جرى البحث في إمكان استخدام إسرائيل لتركيا كمركز لعبور الطاقة إلى أوروبا.
طوال حياته المهنية، أظهر أردوغان قدرة ملحوظة على تعديل خطابه بشكل انتهازي ليتناسب مع مصالحه وتحالفاته.
جاء هجوم حماس على إسرائيل في الـ 7 من تشرين الأول الماضي، كحدث غير متوقع لأردوغان الذي كان يستعد لاستضافة نتنياهو ويخطط لزيارة إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى.
الجعجعة التي كان يثيرها أردوغان في كل صغيرة وكبيرة عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، توقفت تماماً، وفجأة بات أردوغان كالحمل الوديع، فيما تولى هاكان فيدان وزير خارجيته الجديد ومسؤول استخباراته سابقاً، مهمة إصدار التصريحات والبيانات كي لا يحرج أردوغان ويعريه من آخر ورقة توت تستر عوراته على كثرتها.
إذ حث الخارجية التركية في بياناتها على ضبط النفس وأدانت بشدة الخسائر في أرواح المدنيين، وشددت على أن أعمال العنف ستكون ضارةّ، داعية إلى تجنب الأعمال المتهورة ووضع حد لاستخدام القوة وإلى العودة إلى حل الدولتين، دون أن تتحدث بشكل مباشر عن إسرائيل.
كل ما فعله أردوغان من أجل غزة كان الحداد لمدة ثلاثة أيام، ولعل كلام فيدان يلخص موقفه، إذ قال: “أتمنى الصبر لسكان غزة. أريدهم أن يعرفوا أننا نبذل كل ما في وسعنا. إن شاء الله، ستمر هذه الأيام. وستواصل تركيا الوقوف إلى جانبهم. نحن نرى هذا الألم والحزن بمثابة ألمنا وحزننا. وهم ليسوا وحدهم”.
كلام فيدان رسالة إلى الفلسطينيين بأن يتحملوا القتل والتشرد، حتى تمر هذه الحرب وبعدها سيعود أردوغان مطبلاً ومزمراً ومدافعاً عن القدس والفلسطينيين، أما الآن فهو لا يستطيع التحرك لأنه ليس مستعداً للتضحية باقتصاد بلاده المتعثر أصلاً وعلاقاته الاقتصادية مع إسرائيل من أجل الفلسطينيين.
في ظل هذه الظروف، قال أحمد داود أوغلو، المهندس السابق لسياسة أردوغان الخارجية، “كنت أعرف زعيماً، زعيماً كنت فخوراً بأن أكون معه، زعيماً جعل قلبي يرفرف عندما قال “دقيقة واحدة”… اليوم قلبي لا يقبل أن يصمت ذلك الزعيم لمدة 10 أيام. قلبي لا يقبل أنه لم يخرج ويصرخ: “يا إسرائيل” وهذه رسالة كبيرة تكشف حقيقة أردوغان تجاه القضية الفلسطينية.
اليوم أردوغان ليس مستعداً للتضحية بأي علاقة من علاقاته الاقتصادية من أجل الفلسطينيين، وعلى من يطبلون ويزمرون لأردوغان وخصوصاً السوريين منهم الموجودين في الائتلاف السوري والجيش الوطني أن يدركوا أنه سيأتي يوم يكون فيه أردوغان مستعداً للتخلي عنهم من أجل مصالحه، من قدم الاعتذار لبوتين مستعد للتصالح مع دمشق أيضاً وعفا الله عما مضى. فهل سيستفيق هؤلاء من غيبوبتهم أم هم صم عم بكم لا يفقهون؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة.