مع إطلاق حـ ـركة حمـ ـاس عمـ ـلية “طـ ـوفان الأقصى” ورد إسرائيل عليها بعـ ـملية “السيـ ـوف الحديدية” في السابع من تشرين الأول الجاري، بدأت تظهر ملامح نظام عالمي جديد يتطلب من جميع دول العالم تحديد مواقعها وإلى جانب أي جهة ستقف. الشرق الأوسط رقعة شطرنج يحاول الجميع كسبها لاعتقادهم بأن أمريكا لم تعد تعير المنطقة أي اهتمام، ولكن أمريكا كشرت عن أنيـ ـابها بعد أن انتظرت تحركات الجميع.
منذ القدم، شكلت منطقة الشرق الأوسط، ساحة صراع بين القوى العظمى سواء في زمن الامبراطوريات ولاحقاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تتواجد في هذه المنطقة منابع الطاقة من بترول وغاز ومياه سطحية وجوفية ومعادن نفيسة سعت جميع الأطراف على الدوام السيطرة عليها.
وبعد الحرب العالمية الثانية، دار صراع محتدم بين أمريكا وروسيا الشيوعية للسيطرة على هذه المنطقة، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، سيطرت أمريكا وبدون منازع على هذه المنطقة التي قسمتها فرنسا وبريطانيا في اتفاقيات سايكس بيكو ولوزان.
ولكن في آب عام 2021، انسحبت أمريكا من أفغانستان وأعلنت تركيزها على جبهات الصين وروسيا، وظن الجميع بأن الانسحاب الأمريكي يعني تخليها عن الشرق الأوسط خصوصاً أنه سبق الانسحاب من أفغانستان، انسحاب أمريكي من بعض مناطق شمال وشرق سوريا ولاحقاً سحب قواتها المقاتلة من العراق.
بهذا الانسحاب، بدأت دول المنطقة تتجه يميناً ويساراً لعقد تحالفات مع قوى أخرى وخصوصاً مع الصين وروسيا، وبدأت القوى الإقليمية في المنطقة من أمثال تركيا وإيران تنتشي وتضع المخططات للسيطرة على المنطقة، فشكلت كل منهما مجموعات مسلحة مختلفة من سوريين وعراقيين وليبيين وسودانيين وأفغان وغيرهم، ولاءهم جميعاً كان للمال المقدم لها من هاتين الدولتين، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة.
جميع القوى العظمى والإقليمية، رأت في الشرق الأوسط رقعة شطرنج أرادوا السيطرة عليها وتحريك جنودهم فيها. أمريكا التي كانت تراقب بصمت تحركات الدول الصديقة لها وكذلك المعادية لها في المنطقة، وترى كيف تتحرك القوى العظمى والإقليمية.
وعندما بدأت حركة حماس الفلسطينية، عمليتها العسكرية ضد إسرائيل وإطلاق الأخيرة عملية عسكرية ضد حماس في غزة، كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها، وأظهرت للجميع أنها غير مستعدة للانسحاب من الشرق الأوسط بتاتاً أو إتاحة الفرصة للمتنازعين معها في السيطرة على المنطقة.
قد يكون ظاهر التحركات الأمريكية دعم لإسرائيل، ولكن الأخيرة تمتلك علاقات وثيقة مع غالبية دول المنطقة سواء كانت تركيا أو دول الخليج العربي أو مصر والأردن، وهذه القوى لا تستطيع الدخول في صراع مباشر معها ولأي سبب كان، وكذلك تجمعها علاقات مع غالبية القوى العالمية سواء الصين أو روسيا والكثير من دول العالم.
الأطراف التي تعادي إسرائيل في المنطقة هي إيران التي تدعم الكثير من الجماعات المسلحة في المنطقة مثل حزب الله وحماس ومجموعات عراقية وسورية أخرى، وكذلك الحكومة السورية التي لا تستطيع الدفاع عن مطاراتها وبالتالي هي لا تشكل تهديداً لإسرائيل البتة.
المجموعات الوحيدة التي ترى فيها إسرائيل تشكل تهديداً بسيطاً لها هو حزب الله اللبناني والمجموعات الإيرانية المتمركزة في سوريا، ولكن هذه الأطراف غير قادرة على الدخول في صراع مباشر مع إسرائيل، لأن مواقعها مكشوفة للجميع وخصوصاً أن شعوب المناطق التي يتواجدون فيها يحملونها سبب استمرار الحروب والأزمات في مناطقهم، فاللبنانيون باستثناء حاضنة حزب الله هم معادون للحزب وهم مستعدون للتحالف مع أي طرف كان للتخلص منه، وكذلك الحال لدى السوريين والعراقيين، لأن هذه المجموعات شكلت دولة ضمن دولة، فأفقدت بلدانها القدرة على التحرك، علاوة على أن قوتها لا تضاهي القوة العسكرية الإسرائيلية.
وأمام هذا الوضع وللتحكم بخيوط اللعبة مجدداً، بدأت أمريكا باتخاذ جملة من الإجراءات من أجل تعزيز موقفها في الشرق الأوسط.
ومن تلك الإجراءات، اتخاذ البنتاغون قراراً بإرسال منظومة الدفاع الجوي الصاروخي (ثاد) المعروفة باسم نظام الدفاع ضد الأهداف التي تطير على ارتفاعات عالية ومنظومة باتريوت للصواريخ الاعتراضية إلى الشرق الأوسط.
هذا القرار جاء بعد إرسال الولايات المتحدة لقوة بحرية كبيرة إلى الشرق الأوسط في الأسابيع القليلة الماضية بما شمل حاملتي طائرات والسفن المرافقة لهما ونحو 2000 من قوات مشاة البحرية.
نشر القوات والأسلحة لم يبدأ منذ بدء الحرب بين حماس وإسرائيل، بل بدأ قبل أشهر، عبر إرسال أسلحة متطورة إلى شمال وشرق سوريا، حتى أن أمريكا أسقطت طائرة مسيرة لحليفتها في حلف الناتو عندما اقتربت من إحدى قواعدها العسكرية أثناء هجماتها الأخيرة على شمال وشرق سوريا في الفترة ما بين 5 و 9 تشرين الأول الجاري.
إذ أسقطت الطائرات الأمريكية المسيرة التركية من أجل منع اكتشاف الأسلحة الموجودة في قواعدها خصوصاً أن تركيا تجمعها علاقات جيدة مع روسيا ويمكن أن تكشف عن نوعية تلك الأسلحة مع الاجتماعات والاتصالات الكثيرة التي يجريها أردوغان مع فلاديمير بوتين.
في العام السابق 2022 شنت تركيا في شهر تشرين الثاني هجمات على شمال وشرق سوريا، وقصفت طائراتها المسيرة نقاطاً مشتركة بين القوات الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية، ولكن حينها لم تتحرك أمريكا لإسقاط المسيرات التركية، ولكن الآن مع إرسال أسلحة متطورة إلى المنطقة وتدعميها نارياً لم تنتظر التعليمات التركية لمسيراتها بالانسحاب من المنطقة بل استهدفتها بشكل مباشر، هذه الرسالة كان رسالة لأصدقاء أمريكا قبل أعداءها بأنه يمنع منعاً باتاً الاقتراب من قواعدها.
الأمر لم يقتصر على منع المسيرات التركية بالاقتراب بل وصلت إلى المسيرات والطائرات الحربية الروسية، فمنذ أشهر تشتكي روسيا من عدم مراعاة أمريكا لقواعد منع التصادم في سوريا، وتقول دوماً بأن الطائرات الحربية والمسيرة الأمريكية تنتهك الاتفاق في عموم المنطقة.
أمريكا عازمة على العودة بقوة إلى الشرق الأوسط، وهي لن تسمح لأحد بأن يسيطر عليها، وصمتها لفترة من الزمن كان من أجل كشف خيوط اللعبة وإنهاك القوى الإقليمية والدولية على حد سواء، فروسيا الآن باتت مشغولة بالحرب في أوكرانيا، وإيران باتت مشغولة في سوريا واليمن وإيران والعراق، وتركيا مشغولة بسوريا والعراق وليبيا وأذربيجان، والصين باتت مشغولة بتايوان.
الكلفة التي تكبدتها تلك الأطراف في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، أرهقت الجميع، فقط وحدها أمريكا تتصرف كما يحلو لها وهي صاحبة أكبر اقتصاد في العالم وتنشر أجنحتها في مختلف أنحاء العالم كنسر يحلق أيمنا أراد ومتى ما أراد.