يعرف الاستيطان بأنه عملية إسكان واسعة في أرض محتلة، بأي ذريعة كانت بهدف إرساء سيطرة الدولة المهيمنة على الأرض التي سيطرت عليها. وقد تكون دوافع الاستيطان عنصرية أو قومية أو أيديولوجية.
وعرفت الحضارات القديمة الاستيطان، وكان رديفاً لحملات التوسع التي كانت تقوم بها الإمبراطوريات لمد نفوذها والسيطرة على الطرق التجارية، خاصة البحرية التي كانت قديماً مجال المنافسة الإستراتيجية الأول.
وساد الاستيطان بشكل خاص مع فترة الاستعمار خلال القرنين 19 و 20 والتي كان دافعها الأساسي نهب خيرات البلدان ونشر ثقافتهم ودينهم وأيديولوجيتهم، مثل الاستعمار الفرنسي والبريطاني والبلجيكي والإيطالي والبرتغالي والإسباني والألماني، لدول الشرق الأوسط وأفريقيا والهند وغيرها من دول أمريكا اللاتينية.
وخلال الحقبة الاستعمارية تمّ الترويج للاستيطان ضمن المنظومة الاستعمارية القائمة على ادعاء التنوير ونشر الحضارة والقيم الإنسانية الراقية، بيد أن الاستيطان قد تكون له دوافع أيديولوجية ذات خلفية دينية وعنصرية وقومية، كما هو شأن الاستيطان الذي تمارسه تركيا حالياً في أراضي عفرين ذات الأغلبية الكوردية.
فتركيا تسعى لتطهير عفرين من الكورد، وطمس هويتها وماضيها الكوردي عبر تدمير آثارها وكل ما يرمز لكورديتها.
الاستيطان والقانون الدولي
نشأ الاستيطان كرافد من روافد الحملات الاستعمارية منذ الاكتشافات الاستعمارية الأولى التي قام بها الإسبان والبرتغاليون والهولنديون، وبالتالي تناوله القانون الدولي ضمن هذه المنظومة. فقد عرّف القانون الدولي الاستعمار بأنه: سياسة توسعية تمارسها بعض الدول في حق شعوب أقل نماءً، سيكون عليها القبول بنوع من روابط التبعية إزاء هذه الدول.
والواقع أن هذا التعريف والإقرار قائم على تناقض مشابه لذلك الذي تستند إليه الأيديولوجيا الاستعمارية، فهي تعتبر إلحاق أرض أو احتلال دولة توسعاً مشروعاً، كما تُشرّع الهيمنة والاستغلال الاقتصادي لفائدة القوى الاستعمارية دون أي وجه حق إلا ما كان تحت عنوان “الأرض التي لا سيد لها” أو “الأرض الخلاء”، وهو تبرير متهافت كون كل الأراضي التي تم احتلالها تقريباً مأهولة.
وفي مثال عفرين التي بدأت فيها عمليات الاستيطان منذ اليوم الأول من سيطرة تركيا عليها في آذار عام 2018، فأولى الخطوات كانت أن وطنت تركيا عوائل عناصر الجيش الوطني التابع لها في المدينة، من أجل فرض السيطرة عليها، ثم بدأت بتطبيق مشروعها الاستيطاني على مراحل.
المرحلة الأولى للاستيطان كانت بنقل العوائل التركمانية من ريف حلب واللاذقية وإدلب وتوطينهم في نواحي عفرين الواقعة على الشريط الحدودي مع تركيا، وبذلك أنشأت تركيا شريطاً كاملاً من التركمان بعد أن نقلت إليه عوائل تركمانية كانت متعاونة مع تنظيم الدولة الإسلامية في تلعفر العراقية وفروا إلى سوريا مع سقوط التنظيم في العراق وعاصمته المزعومة مدينة الرقة.
المرحلة الثانية من عملية الاستيطان، بدأت بنقل تركيا لعائلات العناصر العربية السنّية المنضوية في صفوف الفصائل التركمانية بسوريا، كونها كانت تعتبرهم من العرب الذين يدينون بالولاء لها، وأسكنت في الشريط المحاذي لشريط توطين التركمان.
وبعد أن أنهت تركيا توطين هؤلاء، بدأت بالمرحلة الثالثة من عملية الاستيطان، عبر نقل العائلات النازحة من عموم المناطق السورية التي تم تسليمها لقوات الحكومة السورية عبر اتفاقات استانا من خلال مقايضات بين تركيا وروسيا مثل الغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماة واللاذقية وإدلب.
فيما تواصل تركيا الآن المرحلة الرابعة من عملية الاستيطان عبر بناء المستوطنات والمخيمات ونقل اللاجئين السوريين القاطنين في تركيا إليها قسراً وتوطينهم فيها.
هذا التوطين غايته الأساسية هو القضاء على كوردية عفرين والتخلص من سكان المنطقة الأصليين واستبدالهم بآخرين في إطار المخطط التركي الساعي للسيطرة على أجزاء من سوريا تراها جزءاً من ما تسميه الميثاق الملي.
وبالتالي باتت جميع قرى ونواحي وبلدات ومدينة عفرين تضم عائلات مستوطنة قدمت من مختلف الأراضي السورية، حيث يجري الحديث في الوقت الحالي عن توطين أكثر من 600 ألف مستوطن في منازل العفرينيين الذين تم تهجيرهم قسراً من ديارهم، وتواصل الفصائل التابعة لتركيا الضغط على من تبقى من أجل تهجيرهم من أجل تغيير ديموغرافية عفرين بشكل كامل.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يتحدث مستوطن عن منزله الذي تم تهجيره واستوطن فيه آخرون، كما فعل هو؟
فالمستوطنون الذين تم توطينهم في عفرين هم بكل تأكيد نازحون سوريون ويملكون منازل وأراضي في مناطق سورية أخرى تم تهجيرهم منها من قبل قوات الحكومة السورية التي نقلت هي بدورها موالين لها إلى تلك المناطق ووطنتهم في منازل النازحين للهدف ذاته الذي تسعى إليه تركيا ألا وهو إنشاء مجتمع متجانس موالي وتابع لها بشكل كامل.
الملفت للانتباه أن هؤلاء المستوطنين الذين تم توطينهم في عفرين يتحدثون عن منازلهم وأملاكهم في المناطق التي نزحوا منها، فمن أباح الاستيطان لنفسه يجعل استيطان الآخرين لمنزله أمراً طبيعياً، وبالتالي من استوطن منازل مهجري عفرين لسان حاله يقول بأنه تخلى عن أرضه ومنزله.
ولكن هؤلاء لا يدركون أنهم أمام معضلة كبيرة ستواجههم مستقبلاً، فتركيا الآن تطبع العلاقات مع الحكومة السورية وهي دولة احتلال وفق القانون الدولي وستخرج يوماً ما من الأراضي السورية شاءت أم أبت إن لم يكن بالقوانين الدولية فسيكون بالمقايضات، وفي حال ذهب أردوغان وهو ذاهب لا محالة لأنه لن يعيش قرناً من الزمن، فأن تركيا ستخرج من سوريا.
وفي حال خروج تركيا فالأكيد أنها ستعقد صفقة مع الحكومة السورية للإبقاء على التركمان ولكن ماذا سيكون مصير العرب السنّة الذين تمسكوا بالمشروع التركي؟ هؤلاء ستسلمهم تركيا للحكومة السورية التي لن ترضى أبداً أن يعيش هؤلاء الذين حاربوها على حدود تركيا التي دعمتهم خشية ظهور رئيس تركي آخر يريد السيطرة على الأراضي السورية، وهؤلاء بطبيعة الحال سيكونون منبوذين لدى الحكومة السورية وهم في ذات الوقت لا يملكون أي ورقة تثبت ملكيتهم لأراضي عفرين لأن الأملاك معروف أصحابها، وبالتالي سيكون هؤلاء عرضة للتهجير منها، وبما أنهم رضوا بالاستيطان في منازلهم غيرهم، فأنه حينها لا يمكنهم المطالبة بمنازلهم لأنهم سيكونون تحت رحمة الفروع الأمنية لدى الحكومة السورية التي لن تغفر لهم أبداً تحركهم وفق المخطط التركي.