عندما كان التعاون الروسي التركي في ذروته بسوريا، قال أحد الضباط الروس في أحد المؤتمرات الصحفية بريف حلب عام 2018، أن الأتراك أعداء والعدو لا يصبح صديقاً أبداً، مشيراً أن اتفاقهم مع تركيا تكتيكي وليس استراتيجي. في ذلك الوقت لم يعر أحد أي اهتمام لتصريحات الضابط الروسي، ولكن يبدو اليوم ما قاله الضابط الروسي حقيقة وأمراً واقعاً مع قرب انتهاء شهر العسل الروسي التركي في سوريا.
إذ حمل شهر تموز الفائت الكثير من التطورات في مجال العلاقات الروسية التركية، فبعد أن اسقطت تركيا طائرة روسية في نهاية عام 2015 وتقديم الرئيس التركي اعتذاراً خطياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تطورت العلاقة بينهما كثيراً في سوريا، وبدأت تركيا تستغل تلك العلاقة لتحقيق مصالحها، وبالمقابل كانت روسيا تسعى لفصل تركيا عن حلف الناتو. نجحت روسيا بدرجة كبيرة في جعل الغرب يكره أردوغان وتركيا وتجعله شخصاً غير مرغوب به، حيث باتت أبواب الاتحاد الأوروبي موصدة أمام انضمام تركيا لهذا الاتحاد، كما بدأت أمريكا وحلف الناتو بدعم اليونان غريم تركيا، وبدأت أيضاً بسحب الاستثمارات منها ما أدى لتهاوي عملتها وارتفاع نسب التضخم والفقر الذي هدد عرش أردوغان. ولم يعد الحلف مستعداً لتقديم التنازلات له في ظل دعمه وتعاونه مع الرئيس الروسي، ما أجبر أردوغان في قمة حلف الناتو التي عقدت في النصف الأول من شهر تموز الفائت، للتفكير جلياً بالعودة إلى حضن حلف الناتو والتخلي عن علاقاته مع روسيا.
ففي قمة الناتو في ليتوانيا قرر أردوغان أخيراً العودة إلى حظيرة الناتو وقبول انضمام السويد للحلف بعد أن كان يعارض ذلك بشدة ويطلق التصريحات الرافضة هنا وهناك. أردوغان حصل على دعم أمريكي في بعض المواضيع خصوصاً موضوع تجديد ترسانة الأسلحة التي يمتلكها، فتركيا عاجزة عن إجراء تلك الصيانات والتحديثات رغم دعايتها الكبيرة لصناعاتها العسكرية التي هي عبارة عن تجميع قطع عسكرية مختلفة دولة المنشأ.
كما ساعد أردوغان أوكرانيا في حربها ضد روسيا، عبر تقديم الطائرات المسيرة التي استهدفت وقتلت الجنود الروس. إرسال المسيّرات لأوكرانيا والسماح بانضمام السويد لحلف الناتو كلف أردوغان علاقته مع روسيا التي ألغت في شهر تموز الفائت اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود التي عقدت مع تركيا والأمم المتحدة. الآن لم يعد هناك باستطاعة تركيا التحرك على الحبلين الروسي والأمريكي معاً.
بات أردوغان الآن في وضع لا يحسد عليه، بعد أن أعلن اصطفافه إلى جانب حلف الناتو ضد روسيا. هذا الاصطفاف الذي سيكون له تبعات بدون أدنى شك في الشأن السوري. لأن روسيا باتت لأول مرة موجودة في البحر الأبيض المتوسط وبالقرب من تركيا التي تشكل الآن الخاصرة الرخوة لحلف الناتو، فروسيا ستغرس بكل تأكيد خناجرها في هذه الخاصرة انطلاقاً من سوريا.
ولذلك بدأت روسيا بعد قمة الناتو بتصعيد هجماتها بالطيران الحربي على منطقة شمال غرب سوريا الخاضعة لسيطرة تركيا والفصائل الموالية لها، وسط إرسال الحكومة السورية لتعزيزات عسكرية إلى المنطقة بشكل مستمر.
هذه التعزيزات سبقتها أيضاً تعزيزات أخرى قبل حلف الناتو، والتي كانت بمثابة تحذير لتركيا بأنه سيتم فتح هذه الجبهة إذا ما انحازت ضد روسيا في اجتماعات الحلف، ولكن يبدو أن تركيا لم تأخذ التهديدات الروسية على محمل الجد، لذلك بدأت التحركات العسكرية تتكثف على تلك الجبهة، بالتزامن مع قصف مستمر لقوات الحكومة السورية لتلك المناطق، يقابله استياء شعبي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاستياء الشعبي من تصرفات فصائلها بحقهم.
وفي ظل تدهور العلاقات الروسية التركية، وانعكاساتها على الأرض السورية، يجري الحديث عن بدء إطلاق قوات الحكومة السورية عملية عسكرية بدعم روسي إيراني ضد الفصائل الموالية لتركيا في شمال غرب سوريا خصوصاً أن بعض وسائل الإعلام تناقلت معلومات عن نية أمريكا نقل الفصائل التابعة لتركيا إلى منطقة التنف على الحدود مع الأردن وإطلاق عملية عسكرية تستهدف قوات الحكومة السورية والوجود الإيراني شرقي سوريا، في ظل رفض قوات سوريا الديمقراطية القاطع للانخراط في معارك ضد قوات الحكومة السورية وإيران.
ما تشهده مناطق شمال غرب سوريا من قصف متواصل للطائرات الروسية ومدفعية قوات الحكومة السورية هدفها كشف الخطوط الدفاعية لتركيا وفصائلها تمهيداً لإطلاق عملية عسكرية يتم فيها توجيه ضربة قوية لتركيا يدفعها للانسحاب من الأراضي السورية خصوصاً أن الدول العربية متوجسة من التواجد التركي في أراضي الدول العربية وتريد وضع حد للتدخل التركي في الشؤون العربية مستغلة انهيار الاقتصاد التركي وحاجتها إلى رؤوس الأموال العربية.