خلال يومي العشرين والحادي والعشرين من حزيران الجاري، عقدت في العاصمة الكازخية (نور سلطان- استانا سابقاً) الجولة العشرين من سلسلة اجتماعات أستانا بين روسيا وتركيا وإيران حول سوريا، وتحول الاجتماع إلى رباعي بعدما شاركت فيه الحكومة السورية، ليكون نسخة مشابهة لاجتماعات موسكو لتطبيع العلاقات بين النظام التركي والحكومة السورية.
وسبق عقد جولة أستانا إعلان الجانب الروسي أن مسودة خارطة طريق تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق والتي أعدتها موسكو جاهزة وهي بانتظار اتفاق الطرفين عليها. حيث تناولت الجولة العشرين من أستانا خارطة الطريق هذه التي لم تأتي الأطراف المجتمعة على ذكرها، نظراً لما يرد فيها من بنود تثير حفيظة فصائل الجيش الوطني وخصوصاً من العرب السنّة الذين لا ترغب تركيا بإثارتهم في الوقت الحاضر حتى إتمام صفقتها مع روسيا وإيران والحكومة السورية.
فالحكومة السورية أعلنت قبل الاجتماع، بأن تركيا مجبرة على تحديد الفصائل التي يجب أن تتخلى عن دعمها مقابل استمرار لقاءات التطبيع، في ظل الرفض التركي شرط دمشق الانسحاب من الأراضي السورية حتى الحصول على ما تريده ضمن الصفقة المبرمة بين الطرفين برعاية روسية.
تركيا تعيش أزمة اقتصادية مع استمرار تهاوي العملة التركية ووصول الدولار الواحد إلى 26 ليرة بعد أن كان بحدود 21 ليرة أثناء الانتخابات. أردوغان الذي وعد الناخبين الأتراك بتحسين الوضع الاقتصادي مجبر على تنفيذ وعده وإلا أن الشعب التركي لن يغفر له ويمكن أن تشهد الفترة الرئاسية الثالثة له تظاهرات عارمة على خلفية الوضع المعيشي السيء الذي يعيشه الأتراك والذي يحملون جزءاً كبيراً منه للاجئين السوريين الذين استقبلهم أردوغان واستخدمهم كورقة ضغط ضد الاتحاد الأوروبي.
وأمام هذا الوضع المأزوم، فأن تركيا قبلت شروط موسكو، خصوصاً أنها تساعدها في تخفيف أزمتها الاقتصادية، وعلى رأسها المطلب الروسي بفتح الطريق الدولي (ام 4) الواصل بين حلب واللاذقية والذي تم الاتفاق عليه بين روسيا وتركيا منذ عام 2020 ولم تنفذه تركيا في ذلك الوقت. والآن فتح هذا الطريق سيساعد على انسياب البضائع التركية إلى مناطق الحكومة السورية ويمكن أن تتوجه من هناك عبر المعابر إلى الأردن والخليج العربي وهذا ما سيدفع عجلة الاقتصاد التركي إلى الأمام.
وفتح الطريق طريق حلب واللاذقية وحده لا يساعد النظام التركي على تنشيط حركة التجارة مع الحكومة السورية والبلدان العربية التي قامت مؤخراً بتطبيع علاقاتها مع الحكومة السورية، ولتؤمن تركيا انسياب البضائع التركية إلى السوق السورية والعربية، لا بد لها من تسليم أحد المعابر الحدودية لروسيا من أجل الإشراف عليها، وفي ظل صعوبة تسليم معبر باب الهوى في إدلب والخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام لروسيا ورفض الأخيرة التعامل مع الهيئة لأنها تعتبرها إرهابية ويجب تصفيتها، لذلك تتجه الأنظار نحو معبر باب السلامة في مدينة إعزاز بريف حلب، وهذا المعبر قريب من حلب وبالتالي سيؤمن حركة البضائع في اتجاهين اثنين اللاذقية ودمشق ومنها إلى الجنوب السوري فالدول العربية. وأحد بنود خارطة الطريق هو تسليم المعبر للجانب الروسي والحكومة السورية.
ولهذا السبب تزامن عقد الجولة الأخيرة من استانا مع تحشيدات عسكرية لقوات الحكومة السورية باتجاه طريق حلب اللاذقية وفي ريف حلب وخصوصاً الجهة المقابلة لمعبر باب السلامة.
وما التصعيد العسكري الأخير من قوات الحكومة السورية وروسيا في ريف إدلب إلا خطوة لافتعال معارك هناك وتوجيه الأنظار إليها من أجل تسهيل فتح معبر باب السلامة بريف إعزاز وتسليمه لقوات الحكومة السورية. ويبدو أن هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل السنّية أدركت هذا المخطط وبدأت هي أيضاً من جانبها التصعيد ضد قوات الحكومة السورية من أجل إجبار الجانب التركي على التدخل وإيقاف هذا المخطط إلى وقت آخر.
وهناك شروط أخرى تم الاتفاق عليها في خارطة التطبيع، وهو الشرط الذي طلبته دمشق، ألا وهو تحديد الفصائل التي يتوجب على تركيا تصفيتها وإيقاف الدعم عنها مقابل استمرار اجتماعات التطبيع. وفي هذا السياق، سبق أن وضعت تركيا قائمة بأسماء الفصائل التي ستتصالح مع الحكومة السورية وأخرى سيتم تصفيتها.
إذ سبق وأن عقدت الاستخبارات التركية اجتماعات مع الفصائل التركمانية مع بدء اجتماعات التطبيع، دعتهم فيها للاستعداد للمصالحة مع الحكومة السورية من أجل ضمان المصالح التركية.
أما الفصائل التي سيتم التخلي عنها فهي الفصائل السنّية التي لا ترى تركيا ضرراً في التخلص منهم بعد أن استخدمهم على مدار سنوات لتحقيق مصالحها في سوريا. فتركيا سبق لها أن تخلت عن الإخوان المسلمين في مصر مقابل التطبيع مع القاهرة وتخلت عن حركة النهضة التونسية في سبيل التطبيع مع الرئيس قيس سعيد وتخلت عن حركة حماس مقابل التطبيع مع تل أبيب، ولذلك لن يضرها التخلي عن الفصائل السنّية السورية مقابل التطبيع مع دمشق، ثم أن تخليها عن هذه الفصائل لن يؤثر على تركيا لأنها ستكون قد ضمنت مصالحها عبر الفصائل التركمانية التي تطبق تعليمات الاستخبارات التركية بأدق حذافيرها.