تواصل تركيا والحكومة السورية، هندسة المناطق السورية وتغيير تركيبتها الديموغرافية بما يتناسب مع مخططاتهما وأهدافهما في المستقبل، ولجئتا إلى اتباع طرق جديدة في هذا السياق تفتح الباب أمام طريق الهجرة وإغراق المهاجرين في البحر وشراء الأراضي من أصحابها بعد تهجيرهم منها وخصوصاً من أبناء الشعب الكوردي.
منذ سيطرتها على مناطق الشمال السوري وخصوصاً عفرين ورأس العين وتل أبيض في عامي 2018 و 2019، بدأت تركيا بتطبيق سياسة التتريك في المنطقة عبر تهجير سكانها الأصليين، ووطنت عوضاً عنهم مئات الآلاف المستوطنين، وهم بغالبيتهم من المسلحين الذين يقاتلون لصالحها حيث تم استقدامهم من مناطق سورية مختلفة بناء على صفقات أبرمتها مع روسيا لتغيير الديموغرافية السورية.
وتم تغيير أسماء العديد من المدن والساحات الرئيسية في المدن الخاضعة لسيطرتها، إلى أسماء تركية، مثل تسمية ساحة آزادي (الحرية) في عفرين إلى ساحة أتاتورك ودوار نيروز إلى صلاح الدين، والدوار الوطني إلى دوار 18 آذار، ودوار كاوا الحداد إلى دوار غصن الزيتون، وفي إطار تغيير أسماء القرى غيّرت تركيا اسم قرية قسطل مقداد الى سلجوق اوباسي، وقرية كوتانا إلى ظافر اوباسي، وكرزيله إلى جعفر اوباسي، وكذلك تغيير اسم مدينة الراعي إلى جوبان باي.
ورافق تغيير أسماء الأماكن الاستراتيجية والكوردية إلى أسماء عثمانية ووضع العلم التركي وصور أردوغان في كل مكان وعلى لوحات الدلالة في كل قرية وناحية ومركز المدينة، فضلاً عن تعليم اللغة التركية في المدارس ووضع العلم التركي على ألبسة الطلبة.
ومنذ أيار العام المنصرم، كشف الرئيس التركي عن مخططه لتغيير ديموغرافية الشمال السوري الخاضع لسيطرة جيشه والفصائل التابعة له والمحسوبة على السوريين، وأعاد التذكير بهذا المخطط في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي عقدت في شهر أيلول عام 2021، وأمام العشرات من رؤساء ومسؤولي دول العالم.
صحيح أن أردوغان قد كشف هذا المخطط منذ بداية العام المنصرم، ولكن الخطوات الفعلية بدأت منذ أن دخلت القوات التركية الشمال السوري بشكل مباشر عام 2016. وازداد هذا المخطط بعد أن شنت تركيا الهجمات على عفرين مطلع عام 2018 وسيطرتها عليه في آذار نفس العام.
إذ تم تهجير أكثر من 400 ألف نسمة من سكان المنطقة الأصليين في عفرين، وعوضاً عنهم، استقدمت تركيا نازحين سوريين من مختلف المناطق السورية وخصوصاً من عوائل المسلحين الذين يقاتلون من أجل تركيا في ليبيا وقره باغ واليمن وغيرها من المناطق.
ولكي لا تتحمل تركيا بصفتها دولة احتلال، أية تبعات قانونية لعمليات الاستيطان والتغيير الديموغرافي، بدأت العمل على بناء مجمعات استيطانية وذلك بإشراف من جمعيات قطرية وكويتية وفلسطينية جميعها تتبع لتنظيم الإخوان المسلمين. إذ ركزت هذه الجمعيات في بناء المستوطنات على المناطق ذات الغالبية الكوردية، في حين تركت المناطق الأخرى من الشمال السوري الخاضع لسيطرتها خصوصاً إدلب التي تكتظ بالنازحين. إذ أنه تم بناء عشرات المستوطنات في عفرين، ومؤخراً بدأ العمل على بناء المستوطنات في تل أبيض.
وبنت تركيا عبر هذه المنظمات العشرات من المستوطنات فوق القرى المدمرة وفي قمم الجبال، وذلك تحت مسمى إنشاء قرى لإيواء النازحين.
والملفت للانتباه أن هناك أكثر من 200 مخيم في مناطق إدلب يعيش فيها ما يزيد عن مليون ونصف نازح بحسب الإحصاءات التركية، ولكن الأخيرة لا تبني لهم القرى والمنازل، بل تركز على المناطق الكوردية في سوريا، وذلك بهدف تغيير ديموغرافية المنطقة.
وحتى الآن أنهت تركيا بناء 68 ألف وحدة استيطانية أسكنت فيها عوائل المسلحين التابعين لها، وكذلك عوائل العاملين في المنظمات التي أسستها تحت مسميات خيرية ولكنها تعمل كجهة استخباراتية لصالح تركيا على حساب السوريين أنفسهم.
ولكي يكتمل السيناريو الذي تعده تركيا لتغيير ديموغرافية المنطقة، تحاول خداع الرأي العام، عبر الادعاء بأن بناء هذه المستوطنات هو من أجل إعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم. ولكن المعروف أن أهالي هذه المناطق التي تبنى فيها المستوطنات يعيشون في خيام على مقربة من مناطق الاصلية، في حين يتم ترحيل سكان بقية المناطق السورية إلى الشمال السوري.
ومؤخراً لجأت تركيا إلى طريقة جديدة لاستكمال عملية تغيير ديموغرافية المنطقة، حيث كلفت الاستخبارات التركية بعض تجار العقارات والسماسرة وعناصر الفصائل المدعومة من طرفها، بشراء ممتلكات سكان المنطقة الأصليين من الكورد، وخصوصاً المهجرين منهم.
ويحاول أولئك التجار والسماسرة استغلال استمرار انتهاكات الفصائل بحق سكان المنطقة الأصليين وفرض الإتاوات عليهم وإجبار الوكلاء الذين يديرون أملاك ذويهم من المهجرين قسراً على دفع الأموال لهم مقابل السماح لهم بزراعة الأراضي وجني المحاصيل وكذلك فرض إتاوات كبيرة على الإنتاج لا تبقي لأصحاب الأراضي شيئاً من انتاجهم.
ويعرض هؤلاء السماسرة والتجار على أصحاب الأراضي المهجرين قسراً، شراء أراضيهم وأشجار الزيتون المزروعة فيها، حيث يعرضون 500 دولار أمريكي ثمناً لشجرة الزيتون الواحدة كما يشترون المتر المربع من الأرض بـ 20 دولاراً أمريكياً، وذلك بهدف دفع الكورد لبيع أملاكهم، حيث يجري تسجيل تلك الأملاك بأسماء الأتراك.
وتلجأ تركيا إلى هذه الطريقة، من أجل أن تضمن مستقبلاً أن تدعي بأن هذه الأراضي تعود لمواطنين أتراك وبالتالي فصلها عن سوريا.
وبالمقابل، تواصل الحكومة السورية والجماعات التابعة لها تغيير التركيبة السكانية في المناطق الخاضعة لسيطرتها من خلال دفع المسلمين السنّة للهجرة، بعد أن هجرت الغالبية العظمى منهم خلال المعارك التي شهدتها المناطق الخاضعة لسيطرتها خلال سنوات الأزمة.
وتريد الحكومة السورية أيضاً مجتمعاً متجانساً موالياً لها في مناطق سيطرتها، إذ أنها هي الأخرى توطن العلويين والشيعة في مناطق السنّة حتى تضمن عدم عودتهم إلى مناطق الأصلية كما تسن القوانين التي تجعل عودة السكان الأصليين إلى مناطقهم شبه مستحيل.
وفي جديد مخططات الحكومة للتخلص من المسلمين السنّة، بدأت مؤخراً بتسهيل عمليات الهجرة من أراضيها، عبر فتح الباب أمام التسويات المؤقتة للشبان المطلوبين ومنحهم إعفاءات عن الخدمة الإلزامية أشهراً قليلة من أجل دفعهم لتأمين طريق للهروب إلى خارج البلاد.
ولتطبيق هذا المخطط، أنشأت الحكومة شبكات لتهريب البشر في مناطق سيطرتها يعملون على تهريب السوريين إلى لبنان ومنها إلى ليبيا أو الجزائر مستفيدة من نفوذ حزب الله في لبنان والأزمة السياسية التي تعانيها الأخيرة. فضلاً عن إنشاءها شبكات للتهريب في المناطق الخاضعة لسيطرتها بالمربعات الأمنية في منطقة الجزيرة، حيث تتواصل هذه الشبكات مع شبكات تهريب البشر التي أنشأتها الفصائل الموالية لتركيا، حيث تتولى شبكات الحكومة تهريب البشر إلى المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا فيما تقوم الأخيرة بتهريبهم إلى تركيا، حيث يقع هؤلاء البشر ضحية لهؤلاء التجار ويتعرضون للقتل والاعتقال والنهب.
أما من يسلك طريق البحر، فهو الأخر إما أن يقع ضحية لشبكات التهريب، أو يبتلعه البحر وفي كلا الحالتين لا يكون باستطاعته العودة إلى سوريا، حتى أن الحكومة السورية لا تسأل عن رعاياها الذين ينجون من الغرق ولا تسعى لاستعادة جثامين من غرقوا مثلما حصل مؤخراً في حادثة غرق مركب قبالة السواحل اليونانية الذي كان يضم قرابة 120 سورياً لم ينجو منهم سوى قرابة 40 شخصاً.
الكل يغيّر ديموغرافية سوريا من أجل تحقيق غايات ومصالح شخصية على حساب السوريين، فسوريا اليوم باتت تشهد أكبر عملية تغيير ديموغرافي لم يشهدها أي بلد من قبل، ومن شأن هذا أن يفتح الباب أمام حرب أهلية ستحرق بنيرانها أجيالاً وأجيالاً إن لم يتم وضع حد لها.