ما أن حطت الانتخابات الرئاسية التركية رحالها، وأعيد انتخاب أردوغان لخمس سنوات جديدة، يبدو أن سوريا والسوريين سيكونون أكبر المتضررين، إذ بدأت عمليات الترحيل القسري في صبيحة أول يوم بعد إعلان نتائج الانتخابات. يبدو أن سوريا مقبلة على أكبر عملية تغيير ديموغرافي منذ نشوئها في بدايات القرن الماضي.
انتهت الأحد، الـ 28 من أيار الجاري، الانتخابات الرئاسية في تركيا، بفوز أردوغان لولاية ثالثة تمتد لـ 5 سنوات. بقاء أردوغان في السلطة سيكون له تأثير كبير، أولاً على الوضع الداخلي التركي من حيث استمرار تهاوي الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم وقمع المعارضة التي لاقى منها الكثير أثناء الانتخابات. وثانياً؛ التأثير سيكون كبيراً في دول جوار تركيا خصوصاً سوريا والعراق.
في سوريا، تسيطر تركيا على مساحة تقدر نحو 10 % من الأراضي السورية رفقة فصائل موالية لها سيتحدد مصيرها في قادم الأيام من خلال الاجتماعات الرباعية التي تعقد بين تركيا وروسيا وإيران والحكومة السورية في موسكو. وأغلب التحليلات تذهب إلى أن الدولة التركية ستستغني عن هذه الفصائل مقابل لأن تكلفة بقاءها بات أكبر من المنفعة المتحققة منها، خصوصاً إذا ما استمرت دمشق وأنقرة في الإجراءات الأمنية المشتركة وخصوصاً غرفة التنسيق المشترك على الأراضي السورية.
على هذه المساحة الجغرافية من سوريا، بدأت تركيا منذ أن سيطرت على عفرين في ربيع عام 2018 بإنشاء مجمعات استيطانية بدعم من جمعيات الإخوان المسلمين في كل من قطر والكويت ومصر وفلسطين، وأولى خطوات بناء المستوطنات كانت في عفرين وتحديداً في 15 تشرين الثاني عام 2018، من خلال إنشاء مجمّع استيطاني باسم “القرية الشامية” نسبة لفصيل “الجبهة الشامية” التابع لتركيا وذلك جنوب مدينة عفرين.
بعد هذا التاريخ، استمرت تركيا ببناء المجمعات الاستيطانية ليس في عفرين فقط، بل شملت المجمعات مناطق في محافظة إدلب وإعزاز وجرابلس في ريف حلب وتل أبيض في محافظة الرقة ورأس العين في محافظة الحسكة، وهذه المناطق جميعها تراها تركيا جزءا من حدود ما تسميه الميثاق الملي وتريد ضمها واقتطاعها من سوريا مع اقتراب مئوية لوزان في تموز القادم. وبلغ عدد المجمعات الاستيطانية التي تم إنشاءها حتى الآن في عفرين فقط أكثر من 25 مستوطنة فضلاً عن عشرات المستوطنات في المناطق الأخرى، وما تزال تركيا تواصل بناء المستوطنات بسرعة خصوصاً بعد أن بدأ النظام التركي بتطبيع العلاقات مع الحكومة السورية.
ومع بدء بداية العام الجاري، كثفت تركيا بناء المستوطنات في الشمال السوري الخاضع لسيطرتها، فأردوغان الذي كان يخشى خسارة الانتخابات، استخدم اللاجئين السوريين كورقة في الدعاية الانتخابية بعد تزايد الخطاب العنصري اتجاههم داخل تركيا، ووعد في حملته الانتخابية بإعادة 3 ملايين لاجئ سوري إلى المناطق الخاضعة لسيطرته وكذلك المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. إذ يبدو أردوغان عازماً على إعادة السوريين جميعاً إلى بلادهم دون أي مراعاة لوضعهم أو حياتهم التي ستكون في خطر حتماً.
تركيا ومن خلال سياسة بناء المستوطنات تريد تحقيق هدفين لا ثالث لهما، أولها التخلص من اللاجئين السوريين على أراضيها، وثانيها، تغيير التركيبة الديموغرافية في المناطق الخاضعة لسيطرتها في سوريا قبل أي اتفاق مع الحكومة السورية خلال تطبيع العلاقات معها، فالمعروف أن المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في الشمال السوري، غالبيتها كانت مناطق ذات أغلبية كوردية، بدأت تركيا وفصائلها بتهجير الكورد منها، فعفرين ورأس العين وتل أبيض والباب وجرابلس وإعزاز كانت تضم مئات الآلاف من الكورد والعرب الوطنيين الذين تم تهجيرهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وبناء مستوطنات في أراضيهم، والآن تريد تركيا نقل غالبية اللاجئين السوريين إلى هذه المناطق وتوطينهم فيها بدلاً من الكورد والوطنيين العرب، وهذا بطبيعة الحال سيخلق العديد من الأزمات في سوريا مستقبلاً.
وما أن حطت الانتخابات التركية رحالها، وفاز أردوغان بفترة رئاسية جديدة من 5 سنوات، بدأت عمليات الترحيل القسري للاجئين السوريين بعد سويعات من إعلان فوز أردوغان، إذ نقلت أرسلت السلطات التركية 1736 لاجئاً سورياً إلى مراكز الترحيل القسري على الحدود السورية – التركية صباح الاثنين وذلك تمهيداً لترحيلهم إلى المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في شمال سوريا.
عمليات الترحيل هذه تحصل بشكل مدروس من قبل الاستخبارات التركية، إذ تم إرسال 271 شخصاً إلى معبر تل أبيض الحدودي من أجل إدخالهم إلى مدينة تل أبيض، وأرسل 817 شخص إلى جرابلس، فيما أرسل 648 شخص إلى إدلب عبر معبر باب الهوى.
عملية الترحيل القسري هذه تأتي في سياق تطبيق أنقرة لبنود الاتفاقية الأمنية الرباعية في موسكو، فبحسب المعلومات فأن أنقرة ودمشق وموسكو وطهران اتفقت على نقل اللاجئين السوريين إلى المناطق ذات الغالبية الكوردية وتوطينهم في مستوطنات وبذلك يتخلص أردوغان من اللاجئين السوريين وفي ذات الوقت سيستخدم ذلك في الدعاية الانتخابية للانتخابات المحلية (البلديات) المقرر إقامتها العام القادم، فأردوغان خسر بلدية إسطنبول وأنقرة ومدن تركية أخرى ويريد استعادتها من أحزاب المعارضة، وسيستخدم اللاجئين السوريين مرة أخرى في الدعاية الانتخابية حتى بعد التخلص منهم.
أما الحكومة في دمشق وطهران فهما أيضاً مستفيدتان من عملية الترحيل القسري هذه، لأن غالبية من سيتم توطينهم في هذه المناطق هم أبناء المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، وبذلت دمشق وطهران جهوداً كبيرة من أجل تهجيرهم وتوطين موالين لهما في مناطقهم، وبالتالي توطين السوريين في مناطق غير مناطقهم الأصلية يسهل عليهم إنشاء مناطق متجانسة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وسيبقي المسلمين السنّة بعيدين عن العاصمة دمشق والمدن الكبيرة التي تتحكم دمشق بمفاصلها مما يضمن لها استمرار سلطتها.
كما أن دمشق وأنقرة وطهران تستفيد من عملية التوطين هذه في التخلص من القضية الكوردية، لأن هذه المناطق التي كانت معروفة بأن أغلبيتها الساحقة من الكورد، ستفقد هذه الصفة، وسيتشرد الكورد في بقية المناطق السورية وسيصبحون أقلية في أي مكان يلجئون إليه.
أما روسيا، فلا يهمها من يتم توطينه في أي منطقة سورية، لأنها تريد الحفاظ على السلطة في دمشق لديمومة سيطرتها على الخيرات السورية وبقاءها في القواعد العسكرية على المياه الدافئة التي كانت تحلم بالسيطرة عليها من زمن القياصرة وتحقق لها ما تريد على طبق من ذهب، عدا عن أهدافها لإبقاء أردوغان لأطول فترة ممكنة في الحكم من أجل توجيه ضربة قاصمة لحلف الناتو الذي يعاديها في أوكرانيا ومناطق أخرى من العالم.
بالمحصلة؛ سوريا مقبلة على أكبر عملية تغيير ديموغرافي منذ تاريخ إنشاء الجمهورية في بدايات القرن الماضي، فمناطق الكورد سيتم توطين العرب السنّة فيها، أما مناطق العرب السنّة في بقية المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية سيتم توطين الشيعة والعلويين فيها، مع الاحتفاظ بالقلة القليلة من العرب السنّة البعثيين الذين يدافعون عن السلطة في دمشق لاستخدامهم أثناء الحاجة على وسائل الإعلام وهؤلاء مع مرور الزمن سينصهرون بين الشيعة والعلويين ولن يبقى لهم من الإسلام السني سوى الاسم فقط.