أحمد خليل
من يمتهن السياسة يكون قادراً على قراءة ما بين أسطر المستجدات والأحداث، فيتخذ الخطوات لكي لا يقع ضحية مصالح القوى الإقليمية والدولية، ولكن الائتلاف السوري الذي حصل على الدعم العربي والإقليمي والدولي بوجه الحكومة السورية، كان غراً في السياسة وظن أن القوى الإقليمية والدولية ستسقط الحكومة في دمشق وتسلمه الحكم وهو جالس في إسطنبول، فلا قرأ المستجدات ولا وضع الخطط بل ذهب أبعد من ذلك عندما ترك العرب وارتمى في حضن تركيا العضو في حلف الناتو ظناً أن تركيا ومن وراءه الناتو يريد الخير للسوريين، ولم يتعظ من تجارب الأسلاف، وها هو اليوم يخسر كل شيء.
الائتلاف الوطني السوري الذي تأسس عام 2011 بعد انطلاق الثورة السورية، تحت مسمى المجلس الوطني السوري قبل أن يغيّر اسمه إلى الائتلاف ارتكب الكثير من الأخطاء طيلة سنوات الأزمة، كان أعضاءه أغراراً في السياسة لا يجيدون قراءة المستجدات والتطورات، ركبوا رياح تصريحات دول الخليج العربي وتركيا وحلف الناتو المعادية للحكومة السورية، كانوا يعتقدون أن هذه الدول ستتدخل عسكرياً لإسقاط الحكومة في دمشق وتسلمهم الحكم على طبق من ذهب.
غرّهم تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا، ولم يكونوا يدركون أن القذافي كان وحيداً لا يدعمه أحد، على عكس الحكومة السورية التي كانت تمتلك حلفاء مستعدين لتقديم كل شيء للحفاظ عليه.
أعضاء الائتلاف سوريون ونصفهم إن لم يكن جلهم منتمين إلى حزب البعث الحاكم، ولكنهم لم يقرأوا أبداً عن العلاقات بين دمشق وطهران، ولم يروا الترابط العضوي بين الحكومة في دمشق وحزب الله اللبناني، استغلهم بعضٌ من الإخوان المسلمين وغرتهم حفنة من الأموال المقدمة من دول الخليج العربي، وأحلام وردية بالسيطرة على الحكم، لم يقرأوا في التاريخ السوري أن الحكومة في دمشق سحقت الإخوان المسلمين بالحديد والنار في ثمانينيات القرن الماضي. فحولوا الثورة السورية السلمية المطالبة بالحقوق والتي كانت تتلقى الدعم من العالم أجمع، إلى العسكرة، فأتاحوا الفرصة ومنحوا قوات الحكومة السورية الحجة البيّنة بقتل السوريين فتركوا السوريين في قبضة الفرقة الرابعة ومثيلاتها وفروا إلى تركيا واتخذوها مقراً لهم وادعوا زوراً وبهتاناً أن سيديرون الثورة من هناك من أجل التواصل مع القوى الإقليمية والدولية، فأزالوا عن أنفسهم صفة الثوار، لأن الثائر لا يترك الشعب وأرض المعركة ويذهب لدولة أخرى.
كانوا أغراراً لا يعلمون أن أوروبا وحلف الناتو، عندما كان يريد القضاء على حركة ثورية، تسعى إلى إخراج قيادات تلك الثورة من منطقتهم ومن بين حاضنتهم وتنقلهم إلى أوروبا لتجعل منهم أتباعاً يتم استخدامهم وقت الحاجة ووضعهم على الرف عندما تنتهي الحاجة بهم. لم يستفيدوا حتى من تنظيم الإخوان المسلمين الذي ركبوا سفينته، لم يروا أن الغرب يضع هذا الحزب على الرف ويستخدمه حينما يشاء وكيفما يشاء وأينما يشاء.
لو لم يكونوا عديمي الخبرة في السياسة، لاكتشفوا أن تركيا بدأت بخيانتهم عندما ذهب أردوغان راكعاً يقدم الاعتذار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد أن أسقط إحدى طائرات جيشه فوق الحدود السورية التركية.
عندما خسروا حلب في صفقة روسية تركية، ظن الجميع أن الائتلاف السوري اكتشف استغلال النظام التركي لهم وسيترك الحضن التركي ويذهب إلى الحضن العربي الذي ابتعد عنه، ولكن العرب تلقوا الصدمة بأن الائتلاف تمسك بحضن التركي أكثر فأكثر، فخسروا دعم العرب لهم. فخفت صوت المجتمع الدولي الذي كان العرب يضغطون عليه تجاه معاناة السوريين، وبقي الحديث عنهم وعن معاناتهم موضوع بيانات وتقارير وإحصائيات تصدرها الأمم المتحدة ودول حلف الناتو عن عدد الضحايا السوريين وحجم الخسائر والفقر والجوع وعدد اللاجئين والغرقى والقتلى على طريق اللجوء.
لم يتعظوا من ذلك، بل حولوا السوريين إلى مرتزقة لدى تركيا يحاربون من أجلها في ليبيا وضد الدول العربية، وجعلوا من اللاجئين السوريين في تركيا سلعة في بازارات السياسة التركية، كما حاربوا جزءاً من اخوتهم السوريين تحت مسمى أنهم كورد ويشكلون خطراً على الامن القومي التركي، ولم يكلفوا نفسهم عناء السؤال: ألا تشكل تركيا خطراً على الأمن القومي الكوردي وعلى الأمن القومي السوري. فخسروا الشعب السوري برمته ولم يبقى لهم سوى فصائل أنشأتها تركيا.
هذه الفصائل التي يقودها التركمان فيما الغالبية العظمى من أعضاءها من العرب السنّة، هؤلاء التركمان تحكموا برواتب عناصرهم العرب السنّة وتحكموا بإرادتهم وحركوهم كيفما يشاؤون من أجل مصالح تركيا، وجعلوهم وقوداً للنيران التي كانت تركيا توقدها هنا وهناك لتحقيق مصالحها.
لم يستفيدوا من درس أستانا وجلوس من كان يدعي دعمهم -تركيا- إلى جانب من يعاديهم ويقتل السوريين – إيران وروسيا-، بل ساروا في الطريق الذي رسمته لهم تركيا دون أن يلتفتوا مرة واحدة إلى الشعب السوري ومعاناته وهم الذين كانوا ينعمون في فنادق إسطنبول ويعيشون في قصور فخمة على حساب دماء الأبرياء في سوريا.
والآن مع بدء تركيا عملية التطبيع مع الحكومة السورية، بدأ الائتلاف بالامتعاض من التطبيع التركي مع دمشق، وبدأوا يتحدثون عن الدول العربية وتركها للسوريين وحيدين وهم كانوا السبّاقين في ترك الحضن العربي.
بدأ أعضاء الائتلاف بالخشية على مصيرهم مع استمرار عملية التطبيع، ففي كل يوم يتلقون ضربة جديدة في الرأس كان آخرها اليوم، عندما قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، إن لجنة إعداد خارطة طريق تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق ستعقد اجتماعها في الأيام القريبة المقبلة وبحضور روسيا وإيران.
الوزير التركي أضاف: “في ختام الاجتماع في موسكو، قررنا إنشاء لجنة لإعداد خارطة الطريق هذه. ومن جانبنا، ستضم اللجنة نائب وزير الخارجية بوراك أكشابار وكذلك ممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الاستخبارات. اللجنة ستكون رباعية الأطراف. في الأيام المقبلة، ستعقد اجتماعها وتبدأ العمل لوضع خارطة طريق”.
مشيراً أن الغاية من التطبيع هو إعادة اللاجئين السوريين القادمين من مناطق سيطرة الحكومة السورية إلى نفس مناطقهم.
وإذا طبعت أنقرة علاقاتها مع دمشق وأعادت اللاجئين السوريين، كيف سيكون موقف الائتلاف السوري وسيدّعي تمثيل منّ وعن حقوق منّ سيتحدث؟
أعضاء الائتلاف السوري وبعد فوات الأوان اكتشفوا أن تركيا باعتهم في مزاد علني وهم نائمون، اكتشفوا كم كانوا أغراراً في السياسة وكيف أن الحضن التركي الذي يشعرون فيه بالدفء لوهلة، تحول إلى نار أحرقتهم بعدما أحرقت سوريا وشعبها وتسببت بقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وسببت شرخاً في المجتمع السوري سيبقى العرب السنّة يدفعون ثمنه لعقود من الزمن مثلما دفع أهالي حماة ثمن احتضانهم للإخوان المسلمين.
والأنكى من ذلك، فأن تركيا ستضحي بالائتلاف السوري مقابل الحصول على امتيازات لقادات فصائلها التركمان، فهي تفاوض دمشق على قبولهم وإعادة دمجهم. وبما أن أعضاء الائتلاف ما زالوا أغراراً في السياسة رغم كل هذه السنوات، فأغلب الظن فأنهم لن يصدقوا أن الاجتماعات تعقد بين قادة الفصائل من التركمان والحكومة السورية لتسوية أوضاعهم برعاية روسية وتركية. فالأخيرة كثفت اجتماعاتها مؤخراً مع الفصائل التركمانية وبدأت بتمهيد الأرضية للتسوية بينهم وبين الحكومة السورية خلال الفترة المقبلة.
باتت خيارات أعضاء الائتلاف السوري محدودة، فإما أن يقبلوا التطبيع ويتوجهوا راكعين إلى دمشق طالبين السماح من حكومتها على أمل أن تعفي عنهم وهذا أمر مستبعد، أو أن يتوجهوا إلى أوروبا ويحصلوا على اللجوء السياسي فيها وتصبح أصواتهم نشازاً غير مسموعة في سوريا أبداً من قبل الجميع، أو أن يعودوا إلى رشدهم في اللحظة الأخيرة ويعلنوا الثورة على تركيا وقواتها الموجودة في الشمال السوري، علهم يضمنون بعض حقوق السوريين الذين خسروا كثيراً.
ليس بالضرورة أن تعبر المقالة عن رأي الموقع