تتواصل المساعي الروسية لتطبيع العلاقات بين تركيا والحكومة السورية، هذا التطبيع الذي إن تم يعتبر بمثابة شـ ـرعنة للاحتـ ـلال التركي لمناطق شاسعة من الشمال السوري الخاضـ ـع لسيـ ـطرتها والتي تقدر بنحو 10 % من مساحة سوريا.
منذ تتالي الأزمات في تركيا قبل نحو عام من الانتخابات وفي ظل فشل تركيا في الحصول على ضوء أخضر من القوى الدولية لشن هجمات على شمال وشرق سوريا، لرفع شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي كانت تتهاوى على وقع الأزمات الاقتصادية والسياسية في المنطقة، بدأ الرئيس التركي بإطلاق التصريحات حول التطبيع مع الحكومة السورية.
وبدأ أردوغان في ربيع عام 2022 بالحديث عن تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، بعد عقد من العداء الصريح للحكومة في دمشق ومساعي لإسقاطها عبر دعم المعارضة المسلحة. فأردوغان وصف بشار الأسد وعلى مدار أعوام بالمجرم والقاتل وبأنه لن يبقى في الحكم ولن يرضى الجلوس معه لقتله للسوريين، ولكن أردوغان المعروف عنه بأنه يفعل كل شيء للبقاء في الحكم، بدأ خطوات التطبيع مع دمشق برعاية روسية التي بدأت هي الأخرى تعاني نتيجة عمليتها العسكرية في أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها عليها.
فأردوغان وبوتين كلاهما باتا يعانيان من العزلة على خلفية سياساتهما في المنطقة، وبات كل منهما بحاجة الآخر للبقاء في الحكم، لذلك اختارت روسيا بوتين دعم أردوغان قبل الانتخابات لضمان بقاءه في سدة الحكم خدمةً لمصالح روسيا، كون تركيا المنضوية في حلف الناتو هي الطرف الوحيد الذي لم يفرض عقوبات على روسيا بل على العكس من ذلك ساعد روسيا على الالتفاف على العقوبات المفروضة عليه.
اللقاءات الأمنية والاستخباراتية بين الحكومة السورية والنظام التركي لم تتوقف رغم العداء السياسي بين الطرفين، فكلاهما يجمعها هدف مشترك وهو معاداة الشعب الكوردي عبر اتفاقية أضنة الموقعة بين الطرفين عام 1998.
ومع حديث أردوغان عن التطبيع، زادت وتيرة هذه الاجتماعات، حيث نجحت روسيا في نهاية العام الماضي، بعقد لقاء بين وزراء دفاع روسيا وتركيا والحكومة السورية في موسكو، وبعد ذلك سعت روسيا للضغط على الحكومة السورية من أجل عقد لقاء على مستوى وزراء الخارجية تمهيداً للقاء أردوغان والأسد.
وفي هذا السياق، روجت روسيا وتركيا للقاء رباعي على مستوى نواب وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران والحكومة السورية في موسكو في 15 و16 آذار الجاري. ولكن روسيا رفعت سقف المطالب عبر دعوتها لبشار الأسد في ذات الوقت إلى موسكو، حيث صرح الأسد من موسكو بأن أي لقاءات يجب أن يكون هدفها جدولة انسحاب القوات التركية وتوقف الأخيرة عن دعم المعارضة المسلحة. قبل أن يتراجع ويقول بأن اللقاءات بين نواب وزراء الخارجية وعلى مختلف المستويات يمكن أن تتم بين الطرفين.
قبول دمشق بتطبيع العلاقات مع تركيا التي تسيطر على مساحة 10 % من مساحة سوريا، والتي تضم مدن كبرى مثل جرابلس والباب وإعزاز وإدلب وعفرين ورأس العين وتل أبيض، يعتبر بمثابة شرعنة للاحتلال التركي لهذه الأراضي ويمهد لفصلها عن سوريا.
الكل يتذكر أن لواء اسكندرون التي ضمتها تركيا بطريقة مشابهة لما تفعله الآن في الشمال السوري من تتريك وتغيير للديموغرافية، في ثلاثينيات القرن الماضي، كان قضية خلاف بين الطرفين ولكن مع توقيع الحكومة السورية عام 1998 اتفاقية أضنة تنازلت عن لواء اسكندرون، وحذفت هذه المنطقة من خريطة سوريا وباتت الخريطة السورية لا تضم هذه المنطقة بعد أن كانت تضمها على مدار سنوات في المناهج الدراسية.
تركيا هيأت الظروف في هذه المناطق السورية لسلخها عن الجغرافية السورية، حيث هجرت سكان المنطقة الأصليين وجلبت التركمان ووطنتهم في هذه المناطق إلى جانب عوائل الفصائل الموالية لها والتي تحولت إلى مرتزقة تقاتل لصالحها في ليبيا والعديد من بقاع العالم، كما منحت تركيا الجنسية لمئات الآلاف من السوريين الذين يجري نقلهم بانتظام إلى هذه المناطق تمهيداً لإجراء استفتاء فيها وسلخها عن سوريا.
الحكومة السورية والنظام التركي بينهما كم كبير من الخلافات ولكن يجمعهما هدف واحد ألا وهو التخلص من الإدارة الذاتية التي تمتلك مشروعاً لدمقرطة المنطقة، وبالتالي كلا الطرفان يريدان التخلص منها، ولذلك تسعى كل من روسيا وإيران لجمع الأسد وأردوغان على طاولة واحدة انطلاقاً من هذا القاسم المشترك.
الحكومة السورية بات قرارها رهينة لروسيا وإيران اللتان تدخلتا في الأزمة لصالح الحكومة ومنعوها من السقوط المبكر في الثورة السورية، ويريدان الآن تحقيق مصالحها على حساب الشعب السوري. فروسيا تريد بقاء أردوغان في الحكم نظراً للأزمات التي يخلقها في حلف الناتو مثل معارضة انضمام السويد إلى الناتو ومساعدته لروسيا في الالتفاف على العقوبات الغربية والأوروبية على خلفية تدخله العسكري في أوكرانيا، ولذلك تريد استكمال هذا التطبيع قبل الانتخابات من أجل ضمان فوز أردوغان فيها في ظل اتحاد المعارضة التركية ضده وتهاوي شعبيته خصوصاً بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا والذي كشف حجم الفساد في حكم أردوغان وعدم تقديمه الخدمات للشعب التركي.
أما إيران فهي الأخرى وإن كانت تعادي تركيا في بعض المناطق، إلا أنها تريد التخلص من المشروع الذي يتطور في سوريا بريادة الكورد لأنها أيضاً تضطهد الكورد على أراضيها وتحرمهم من حقوقهم، فحصولهم على حقوقهم في سوريا سيشكل عامل ضغط عليها أيضاً لمنحهم حقوقهم، وبالتالي لا يهمها أن خسرت سوريا جزءاً من أراضيها مقابل منع الكورد في سوريا الحصول على حقوقهم. ولذلك انخرطت هي الأخرى في الوساطة بين أنقرة ودمشق لتطبيع العلاقات بينهما.
ولكن يبقى السؤال: هل ستتخلى دمشق عن 10 % من مساحة سوريا مقابل منع الكورد من نيل حقوقهم؟ وهل سيقبل السوريون التخلي عن أرضهم مقابل القضاء على الكورد وحقوقهم؟ إجابات ستجيب عليها قادم الأيام.