أحمد خليل
كلما زادت تصريحات الساسة كلما كثرت أخطائهم وانكشفت مخططاتهم، وهذا حال مسؤولي حزب العدالة والتنمية التركي بداء من رئيس الحزب أردوغان وصولاً إلى البرلمانيين والمستشارين ومسؤولي الحكومة. فنظرتهم إلى حلب كولاية تركية لم تتوقف ومعها لم تتوقف مخططاتهم لإعادة السيطرة عليها وهذا ما كشفه علانية مستشار أردوغان ياسين أقطاي.
مدينة حلب.. قلب الاقتصاد السوري، كانت منذ بداية الأزمة السورية هدفاً للسلطة الحاكمة في سوريا بمشاريعها العثمانية القديمة المتجددة. رجب طيب أردوغان الحالم بإعادة أمجاد سلطنة بائدة لم تقدم للشعب العربي سوى المجازر والبؤس والفقر، أراد منذ بداية الأزمة السيطرة على أراضي دول الجوار التي يراها جزءا من الميثاق الملي الذي أقره البرلمان التركي عام 1920 قبل أن يفقد السيطرة عليها أثناء تشكيل الجمهورية عام 1923.
ولذلك تدخل أردوغان الذي كان حينها رئيساً للوزراء بشدة في حلب، عبر تشكيل مجموعات مسلحة بمسميات عثمانية أطلق عليها أسماء السلاطين الأتراك مستفيداً من وقوعها على الحدود مع تركيا وبعدها عن المركز في دمشق. فقدم لها السلاح وأنشأ معسكرات التدريب داخل الأراضي السورية مستفيداً من عدم وجود قوات للحكومة السورية تحرس الحدود.
هذا الدعم انعكس مباشرة في بداية عام 2012 مع سيطرة هذه المجموعات على المدن التابعة لمحافظة حلب والواقعة على الحدود مثل جرابلس ومنبج والباب وإعزاز، وتمدد جبهة النصرة- المعروفة حالياً باسم هيئة تحرير الشام في إدلب المجاورة. بعد ذلك مع منتصف عام 2012 انتقلت المعارك إلى مدينة حلب.
استفاد أردوغان كثيراً من التجار التركمان المتواجدين في مدينة حلب، حيث عمل عبرهم على تنظيم المجموعات المسلحة ضمن مدينة حلب لتبدأ معركة السيطرة على المدينة، حيث شهدت هذه المدينة أعتى المعارك، حتى باتت الفصائل التي تدعمها تركيا تسيطر على أكثر من نصف المدينة، وبقي الحال كذلك حتى تدخلت روسيا في الأزمة السورية في أيلول عام 2015. حينها تغيرت موازين القوى ولكن ليس لصالح تركيا.
فالمجموعات الموالية لتركيا، فمن جهة كانت تشن الهجمات على قوات الحكومة السورية ومن جهة أخرى تركز هجماتها على المناطق الكوردية، فعفرين الواقعة في ريف حلب كانت تتعرض باستمرار لهجمات هذه المجموعات المسلحة رغم أنها كانت خالية من قوات الحكومة السورية التي كانت تقول الفصائل الموالية لتركيا إنها تريد إسقاطها. حتى أن حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب واللذين كانا خاضعان لسيطرة الكورد ولا تتواجد فيها قوات الحكومة السورية كانت تتعرض باستمرار لهجمات هذه الفصائل. حينها لم يكن السوريون يدركون لماذا تشن هذه الفصائل الهجمات على الكورد رغم أنهم أكثر من يعارضون الحكومة السورية وعملوا على طردها من مدنهم.
مع التدخل الروسي، بدأت بعض الحقائق تنجلي ولكن الموالين لتركيا والمخدوعين بخطابهم الشعبوي وتلفيقاتهم حول الشعب الكوردي، لم يستوعبوا الأهداف التركية بل زادوا تبعيةً لتركيا وسعوا جاهدين لتنفيذ المخططات التركية ونسوا الثورة السورية والتضحيات التي قدمتها. حتى جاءت لحظة تسليم تركيا مدينة حلب في عام 2016 لروسيا وإيران بعد صفقة عقدتها معهما، لقاء السماح لها بالسيطرة على المنطقة الفاصلة بين كوباني وعفرين.
بين ليلة وضحاها، انسحبت مئات المسلحين دون أي قتال أمام قوات الحكومة السورية، حينها خرج الكثير من المقاتلين الشرفاء وقالوا إن ما يجري عملية بيع للثوار ولكن أعدادهم كانت تعد على أصابع اليد الواحدة ولم يصدقهم أحد حتى أنه جرى تصفيتهم لاحقاً.
أردوغان الذي أجبر على التنازل عن مدينة حلب لصالح الحكومة السورية مقابل القضاء على الوجود الكوردي، ظل يفكر في حلب كولاية عثمانية يجب السيطرة عليها، لذا حاول جاهداً إبقاء الفصائل الموالية له بجانبها دوماً، لذلك سعى لتجميع هذه الفصائل في مختلف المناطق السورية في إدلب وريف حلب، فعقد الصفقة تلو الأخرى مع روسيا وأعاد بذلك سيطرة الحكومة السورية على غالبية الأراضي السورية في أرياف حمص وحماة ودمشق والجنوب السوري، ومقابل ذلك كان يحصل على الموافقة الروسية بالقضاء على الشعب الكوردي، في حين كان من يصفون أنفسهم ثوار يتحولون إلى مرتزقة لدى تركيا يقاتلون من أجل أهدافها، ظناً منهم أن تركيا لن تخذلهم وستبقى تدعمهم إلى أن تسقط الحكومة السورية، ولكن ما كان يجري خسارة تلو الأخرى.
تركيا كانت تعتقد بأنها ستستطيع القضاء على الكورد عبر هذه الصفقات في فترة قصيرة لتعود وتحرض فصائلها على الحكومة السورية، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن أردوغان، فرغم سيطرته على عفرين إلا أن الإدارة الذاتية لم تتبعثر، بل هذه التجربة التي انطلقت من المناطق الكوردية في سوريا، بدأت تتوسع في المناطق المجاورة في الرقة ومنبج وريف دير الزور، فأراد شن الهجمات عليها، لكن تضاربت مصالح القوى العظمى المتدخلة في سوريا حينها – أمريكا وروسيا- وحتى إيران وحتى أوروبا والغرب، فلم يسمحوا لأردوغان بشن هجمات جديدة، فتحول أردوغان إلى خطة جديدة مع تصاعد الأزمات ضده في الداخل التركي.
الأزمات لم تأتي فرادى على أردوغان، فمن جهة وضعت روسيا وأمريكا خطوطاً حمراء في طريق مخططاته ضد الكور في سوريا، ومن جهة أخرى تفاقمت الأزمة الاقتصادية في الداخل التركي واتحدت المعارضة ضده وازداد الاحتقان الشعبي في تركيا من اللاجئين السوريين الذين طالما استخدمهم أردوغان كورقة ضغط ومساومة، فما كان من أردوغان إلا أن يتوجه إلى حضن الحكومة السورية وليعيد تطبيع العلاقات معها أملاً في تخفيف المشاكل التي يعانيها وذلك من أجل الفوز في الانتخابات التي أعلن بأنها ستجرى في الـ 14 من أيار القادم.
رغم بدء قطار التطبيع مع الحكومة السورية، لكن التصريحات الكثيرة التي يدلي بها أردوغان ومستشاروه ومسؤولو حزبه وحكومته، تفضح مخططاتهم، وخصوصاً ما يخص مدينة حلب منها.
فقبل نحو أسبوع كشف مستشار أردوغان، ياسين أقطاي، وبشكل صريح عن مخططهم الساعي للسيطرة على مدينة حلب، عندما طالب بإعادة سيطرة تركيا عليها وذلك بحجة إعادة اللاجئين السوريين. الموضوع هنا يتجاوز إعادة اللاجئين، إنه يكشف النية الواضحة والصريحة في السيطرة على المناطق التي تراها تركيا جزءا من ميثاقها الملي والتي تضم محافظات حلب والحسكة والرقة ودير الزور السورية إلى جانب الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل ودهوك في إقليم كوردستان العراق.
من أجل يصل أردوغان إلى حدود ما يسميه الميثاق الملي، بدأ التدخل في أوحال الأزمة السورية، ودعم تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة والعشرات من الفصائل الأخرى الشبيهة والمختلفة عنها بالتسمية فقط، وشن هجمات على شمال وشرق سوريا وشن الهجمات على إقليم كوردستان العراق ونقل قواته إلى قاعدة بعشيقة في الموصل، وادعى بكل هذه التحركات أنه يقاتل حزب العمال الكوردستاني رغم أن هذا الحزب معروف أين يتواجد، فهو موجود في الجبال وتركيا التي أطلقت في نيسان عام 2022 عملية ضده انسحبت من المناطق التي بدأت فيها هذه العملية دون أن يتمكن من السيطرة على أي منطقة من مناطقهم تلك.
أردوغان يريد أن يسيطر على هذه المناطق كلها، ومن يرفض مخططه هذا يتم إبادته بحجج مختلفة منها الامن القومي التركي والإرهاب وما إلى ذلك من حجج، أما الذين يقبلون بمخططه فهم بالنسبة له مرتزقة ويرسلهم للقتال من أجل مصالحه في مختلف بقاع الأرض، فمن يخون شعبه كيف سيكون مفيداً لدولة أخرى، ولذلك يراهم أردوغان حطباً للنيران التي يشعلها هنا وهناك، ولا ضير أن يسلم رقابهم للحكومة السورية أيضاً فيما لو اكتمل التطبيع معها مقابل تحقيق أردوغان لبعض طموحاته ولو في الحدود الدنيا.
ولكن رغم كل هذا لا يزال بعض المستلقين من المعارضة السياسية والعسكرية التابعة لتركيا، يحاولون إيهام السوريين بأن تركيا تقف إلى جانبهم وتعمل من أجل مصلحتهم وثورتهم. وربما عندما يستفيق هؤلاء من غفلتهم سيرون أنفسهم مرميين في أحضان الحكومة السورية التي لن ترحمهم بعد أن عانت لسنوات وتبخرت كل الأموال التي كدستها لعشرات السنين في الحرب من أجل البقاء في هرم السلطة.
ليس بالضرورة أن تعبر المقالة عن رأي الموقع