منذ أن أصبح أردوغان رئيساً لتركيا عام 2014، وضع نصب أعينه البقاء على كرسي الحكم في مئوية تأسيس الجمهورية التركية المصادفة لـ 29 تشرين الأول 2023، بهدف محو كل شيء متعلق بمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
ولكي يستطيع محو كل شيء لا بد له من أن يسيطر على أراضي الدول الجوار، التي تراها تركيا جزءاً من ما يسمى بـ “الميثاق الملي” الذي يتضمن إدلب وحلب والحسكة والرقة السورية، إضافة إلى كركوك والموصل ودهوك وأربيل والسليمانية في العراق.
ومنذ ذلك الحين، بدأ أردوغان بالتخطيط للتدخل في هذه الدول والسيطرة على أراضيها، ولكنه كان يفتقد إلى الحجة، لذلك دعم المجموعات المسلحة السورية على اختلاف مسمياتها وكذلك دعم جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية وفتح لها مطارات المدن التركية ونقلهم إلى سوريا وفتح أبواب المستشفيات لمعالجة جرحاهم، وأرسل لهم الأسلحة والأموال وأشترى منهم النفط السوري المنهوب.
لكن تدخل وحدات حماية الشعب والمرأة في القتال والتصدي لهذه المجموعات أفشل المخطط التركي، ولذلك لجأ أردوغان الذي يعتبر أكبر داعمي تنظيم الدولة الإسلامية بشهادة عناصر التنظيم الذين تم اعتقالهم خلال الفترة السابقة، إلى استخدام تواجد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2016 كحجة للسيطرة على الأراضي السورية، بعد أن كان التنظيم موجوداً على طول الحدود منذ عام 2013.
بهذه الحجة سيطرت تركيا على مدن جرابلس، الباب، وإعزاز، كما سيطر على إدلب عبر جبهة النصرة من خلال اتفاقات أستانا كطرف ضامن عام 2017. ولكن هذا لم يكن كافياً لأردوغان، فبدأ باستخدام حجة تواجد الكورد على حدود تركيا، رغم أن الكورد يتواجدون في مناطق سكنهم الأصلية ولم يأتوا من أية بقعة سورية إلى هذه المنطقة.
وعليه، بدأ بالمقايضات مع روسيا التي كانت تريد إعادة سيطرة الحكومة السورية على أراضي البلاد والتخلص من المعارضة المسلحة، فبدأ أردوغان بإيقاف الدعم عن المعارضة وإجبارهم على الخروج من الأراضي التي يسيطرون عليها في سوريا، وبذلك تم تسليم حلب وأرياف حلب وحمص وحماة وغوطة دمشق إلى الحكومة السورية مقابل السيطرة على عفرين عام 2018.
ثم استخدم الكورد مرة أخرى كحجة للسيطرة على أراضي جديدة من سوريا، عام 2019، وبذلك سيطر على مدينتي رأس العين وتل أبيض. ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن أردوغان بعد ذلك الحين، إذ أدت موجة كورونا وجفاف المناخ والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي اعتمدها أردوغان والعقوبات التي فرضت على نظامه بسبب هجماته على قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا التي تعتبر جزءا من التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلى تدهور الاقتصاد التركي وتهاوي قيمة الليرة التركية، فبات أردوغان في وضع حرج جداً مع قرب الانتخابات.
ومع انعدام الحجة لشن الهجمات على شمال وشرق سوريا، والكورد خصوصاً، بدأ أردوغان محاولات التقارب مع الحكومة السورية، وبدأ بإطلاق التصريحات وإرسال مدير الاستخبارات هاكان فيدان للقاء مدير مكتب الأمن الوطني لدى الحكومة السورية علي مملوك في أكثر من مناسبة، ولكن دمشق استقبلت تصريحات أردوغان ببرود، كونها تدرك أن أردوغان بحاجة للفوز في الانتخابات، وطالبت قبل كل شيء بخروج القوات التركية من الأراضي السورية كبادرة حسن نية.
أراد أردوغان أن يتشارك مع الحكومة السورية في شن الهجمات على شمال وشرق سوريا، ولكن لانشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا والتواجد الأمريكي في شمال وشرق سوريا، جعل هذا المخطط صعب التطبيق، لذلك لجأ أردوغان لافتعال تفجير في ناحية تقسيم في مدينة إسطنبول لاتخاذها كحجة لشن الهجمات على شمال وشرق سوريا.
ويرى أردوغان خلاصه والفوز في الانتخابات بشن الهجمات على الكورد مرة أخرى وبذلك يستطيع أن يكتسب أصوات الناخبين الأتراك القوميين لضمان فوزه، على اعتباره قد خسر الورقة الكوردية في تركيا، بعد أن فشل مرشحه لرئاسة بلدية إسطنبول بن علي يلدرم أمام مرشح المعارضة المنتمي لحزب الشعب الجمهوري إمام أوغلو بسبب دعم الكورد له في الانتخابات.
أردوغان يدرك جيداً أنه لن يحصل على ضوء أخضر أمريكي وروسي لشن الهجمات على المنطقة، لذلك بدأ مجدداً بإطلاق التصريحات حول التقارب مع دمشق. إذ قال أردوغان مؤخراً أنه “يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها (في العلاقات) مع سوريا في المرحلة القادمة مثلما جرى مع مصر، فليست هناك خصومة دائمة في السياسة”.
واليوم قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إنه لا يوجد موعد محدد للقاء الرئيسين التركي والسوري إن كان قبل الانتخابات التركية أم بعدها منوها بلقاءات تجري بين أجهزة المخابرات التركية والسورية.
وأكد المتحدث أن هناك لقاءات تتم فعلا بين أجهزة المخابرات التركية والسورية، ويجب رفعها لمستويات مختلفة.
وتابع قائلا: “نعم لا توجد (خصومة دائمة في السياسة).. ولكن من أجل إعادة تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، يجب تحضير الأسس الصحيحة اللازمة، فهناك قضايا مهمة يجب التوافق حلّها، كاللاجئين ومحاربة الإرهاب، ووضع الدستور السوري الجديد”.
اللافت في الأمر أن هذه التصريحات تزامن مع الذكرى الـ 84 لسلخ لواء اسكندرون السوري من قبل تركيا، وفي وقت يتحدث فيه المحللون السياسيون الأتراك على القنوات الأجنبية بأن تركيا هي من أبقت “النظام السوري” على سدة الحكم حتى الآن.
وكذلك تأتي في وقت تستعد فيه أنقرة للتخلي عن الائتلاف السوري عبر الخطوات التي اتخذتها ومن أهمها مطالبة أعضاء الائتلاف بإيجاد بلد بديل للقيام بنشاطهم المعارض لدمشق، وكذلك فرض سيطرة هيئة تحرير الشام على المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل التابعة للائتلاف، وكذلك إجراءه تغييرات في قاعدة الائتلاف، ونقل عوائل التركمان إلى المناطق الحدودية التي يسيطر عليها، وتعيين التركمان كقادة على العرب السوريين في مناطق سيطرتها.
أردوغان بهذا المخطط يحاول خداع دمشق والمعارضة السورية على حد سواء، وذلك لتطبيق مخططه، فالجميع يتذكر كما جرى في لواء اسكندرون من نقل عشرات الآلاف من الأتراك إليها، وتغيير ديموغرافيتها ثم اجراء استفتاء الانفصال عن سوريا.