يلاحق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الكورد دون هوادة، فلا شغل له سوى السعي وراء تحجيم النفوذ الكردي شرق سوريا وتكبيل الأقلية الكردية في بلاده، مطوعا أي سلاح يمكن أن يفيده في ذلك وإن كان هذا السلاح تنظيم الدولة الإسلامية، مستعينا بحلفائه القوميين الذين يدفعهم موقفهم المتطرف حيال الكورد إلى منعهم من أبسط حقوقهم المدنية. لكن هذه الأقلية تحقق انتصارات على الأرض وتكتسب ثقة القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة مما يجعلها تهدد كل مخططات أردوغان.
ونشرت صحيفة العرب اللندنية مقالا للكاتب علي الصراف حول مساعي الرئيس التركي أردوغان لإقناع الجميع بمعاداة الكورد وتحقيق سياسته حيال المنطقة الآمنة، وقال الكاتب” لا يوجد لدى الرئيس التركي أردوغان عدو إلا الكورد. إنه يلاحقهم من هلسنكي إلى منبج في سوريا، بالطول. ومن زاخو إلى تل رفعت، بالعرض. والسبب المباشر، الذي بين يديه الآن، هو أن الكورد هزموا دولة الخلافة “الداعـ.ـشـ.ية” التي كان يقيم معها علاقات حسن جوار، باعتبارها امتدادا أيديولوجيا لخلافته هو. وكان أردوغان يريد لتنظيم الدولة الإسلامية أن تنتصر لتحقق له غاية أساسية وهو سحق الطموحات الكردية في سوريا والعراق.
إلا أن ظهور وحدات حماية الشعب الكردية في خضم تداعيات الانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد في العام 2011، آخر ما كان يرغب أردوغان أن يراه. فتلك الوحدات لم تكن إلا تنظيما سعى لتجنيب المناطق الكردية تداعيات ما تحول إلى حرب أهلية، تدعم تركيا فيها فريقا مسلحا يقوده تنظيم الإخوان المسلمين، وذلك في موازاة تنظيم سياسي خاضع هو الآخر للمشروع الإخواني.
ووجد الكورد السوريون أن حقوقهم القومية المهضومة، على غرار الحقوق السياسية المهضومة لكل السوريين الآخرين، تبرر الدفاع عن فكرة أن يتمتع الكورد بحقوق ثقافية وبنوع من الحكم الذاتي يوفر لهم عيشا كريما في بلد يعترف بحقوق مواطنيه الدستورية، ويقوم على أساس سيادة سلطة القانون.
لم تكن وحدات حماية الشعب إلا واقعا فرضته الظروف في مواجهة فصائل مسلحة تدعمها تركيا من ناحية، ومن ناحية أخرى، في مواجهة اتساع دائرة نفوذ تنظيم الـ.قاعـ.ـدة، من قبل أن يظهر تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل في العام 2014.
ولم تفعل تركيا بقيادة أردوغان شيئا سوى أنها تواطأت مع تنظيم الدولة الإسلامية، آخذة بعين الاعتبار الروابط الأيديولوجية نفسها التي يستند إليها جمهور الخلافة العثمانية في تركيا وأنصارهم من الإخوان في سوريا.
والأدلة التي أثبتت وجود صلات تجارية ولوجستية بين دولتي الخلافة أكثر من أن تعد. فتركيا، في أقل الحدود، كانت ممرا لعشرات الآلاف ممن التحقوا بالتنظيم من أوروبا وروسيا وأرجاء أخرى من العالم. وكانت تجارة النفط التي تمر إلى تركيا عبر شاحنات وسيلة التمويل الأهم لتنظيم الدولة الإسلامية.
والمقاتلون الكورد هم الذين سحقوا تنظيم الدولة الإسلامية، ابتداء من معركة كوباني الشهيرة التي ألهبت الكثير من مشاعر التعاطف معهم، بالنظر إلى البسالة الشديدة التي أظهروها، رجالا ونساء، في المعارك من شارع إلى شارع، ومن منزل إلى منزل، حتى تمكنوا في نهاية المطاف من أن يُسقطوا ماكانت تسمى بعاصمة الخلافة في الرقة في العام 2017.
إلا أن أردوغان كان يريد لتنظيم الدولة الإسلامية أن تنتصر لتحقق له غاية أساسية من غايات التحالف القومي الحاكم في تركيا وهو سحق الطموحات الكردية في سوريا والعراق، لتكون أساسا للمزيد من أعمال القمع المنهجي ضد الكورد في تركيا.
إلا أن الكورد هم الذين كسبوا المعركة. وكسبوا معها شيئا آخر لا يقل أهمية من الناحية الاستراتيجية هو أنهم أصبحوا حليفا موثوقا للولايات المتحدة. وهو ما كان يعني بالنسبة إلى أردوغان خسارة صافية على جبهة الحرب ضد الكورد وعلى جبهة العلاقات مع الولايات المتحدة.
وفي الواقع فإن كل ثغرات العلاقة مع واشنطن، إنما جعلت أردوغان يضع الأكراد تحت طائلة المزيد من الكراهية، على اعتبار أنهم هم الذين أسقطوا المكانة الاستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى واشنطن، وبالنسبة إلى الحلف الأطلسي نفسه.
ويدرك أردوغان جيدا الأهمية الاستثنائية لانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي، إلا أنه يعاند هذا الانضمام ليجعل من عقدته الكردية هي الأساس. وكان يريد أن يقبض ثمنا لقبول عضوية هذين البلدين، هو أن يتاح لتركيا أن تتمدد أكثر في الأراضي السورية من أجل أن تُضعف مكانة وحدات حماية الشعب التي شكلت الثقل الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية.
وكان يريد أيضا أن يجعل المقايضة تشمل توسيع “المنطقة الأمنية” التي تفرضها تركيا في الشمال السوري إلى عمق 30 كيلومترا، لتكون بمثابة حاضنة لنحو مليون لاجئ سوري يريد أن يطردهم من تركيا ويقيم منهم “كيانا” أمنيا خاضعا لسيطرته وسيطرة ميليشياته. أو بعبارة أخرى “دولة خلافة” ثانية هدفها الرئيسي هو محاربة الكورد والانتقام، تحديدا، من انتصارهم على تنظيم الدولة الإسلامية.
والأراضي التي يفترض أن تشملها هذه الدولة تمتد من تل رفعت ومنبج وكوباني وصولا إلى أقصى شمال شرق سوريا، حيث يتعين أن تتلاقى مع قواعده التي يقيمها في شمال العراق.
إنها دولة خلافة جديدة، إنما بعناصر أردوغان، وبما يتسرب إليها من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية.
وقفت الولايات المتحدة حجر عثرة حتى الآن أمام هذا المشروع. ولكن أردوغان يراهن على أن فرصه في الأطلسي، ونوافذه التقليدية في واشنطن يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير الصورة هناك.
وبالنسبة إلى أردوغان، لا يوجد على سطح الكرة الأرضية عدو أخطر من هذا. الكورد هم العدو الأوحد. ولهذا السبب فإنهم شغله الشاغل، حتى ولو أنهم لم يطلبوا حقوقا أكثر مما تعطيه أي دولة تتعايش مع أقلياتها. فالعدو الذي ظل يلاحقه أردوغان في كل مكان، من هلسنكي إلى منبج، سوف يقتحم عليه داره في تلك الانتخابات القادمة. وهذا هو الخوف الذي ترتعد له الفرائص.
مشاركة المقال عبر