تهديدات أردوغان ورغبته الشديدة بعملية عسكرية جديدة في شمال شرقي سوريا، وإعادة العلاقات مع دول الخليج ومصر وإسرائيل، لا توجد خلفها سوى الوصول إلى حدود مايسميه الميثاق الملي والعودة إلى المناطق التي خسرتها الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي وتحقيق حُلم عُثماني زائل منذ قرن من الزمن بعدما أصبحت رجل أوروبا المريض.
ويرى أردوغان رأس الحكومة التركية أن إتفاقية لوزان عام 1923 التي وقعت في سويسرا ورسمت الحدود الحالية للجمهورية التركية قد أفقدت تركيا مساحات شاسعة من أراضيها ولا بد من إستعادتها، منوهاً أن تركيا مابعد عام 2023 لن تكون كما قبله في إشارة منه إلى قرب موعد الإتفاقية التي تنتهي في ذلك العام.
فدعوة أردوغان المتجددة بالتخلص من إتفاقية “لوزان” ليست إلا لدوافع استعمارية والعودة إلى الميثاق الملي التي تريد تطويره على شكل عثمانية جديدة تهدف لتوسيع النفوذ التركي في مناطق بشمال الدولتين الجارة لتركيا سوريا والعراق ومناطق من إقليم كردستان العراق بالإضافة إلى دول أوربية متاخمة معها كمناطق من اليونان، على شكل قوس يمتد من إدلب في شمال غربي سوريا، إلى الموصل في شمال العراق، وصولاً إلى إقليم كردستان، مروراً بمدن ديرالزور والرقة وكركوك وصولاً إلى السليمانية.
ويتكون الميثاق الملي من ستة بنود هي:
1-مستقبل المناطق العربية المحتلة عن طريق منح استفتاء حي يسكنها أغلبية تركمانية.
٢- وضعية قارس وأردخان وباطون من خلال استفتاء.
٣- تراقيا الغربية أيضاً من خلال استفتاء.
٤- يجب ضمان أمن إسطنبول وبحر مرمرة باعتباره شريان اقتصادي.
5- ضمان حقوق الأقليات المسلمة.
6- لضمان تطور تركيا في جميع المجالات، يجب إلغاء جميع الالتزامات المالية والقضائية والسياسية على البلاد.
وسبق أن طالب الرئيس التركي صراحة خلال زيارته اليونان نهاية عام 2017 بتحديث اتفاقية “لوزان”، وسبق الزيارة تأكيده أن “لوزان” كانت “خسارة لبلاده”، عندما قال: “يريد بعضهم أن يقنعنا بأن معاهدة لوزان انتصار، أين الانتصار فيها؟ لقد خسرنا بعض جزُرنا في بحر إيجه لمصلحة اليونان.. مَن جلسوا إلى الطاولة في لوزان لم يتمكنوا من الدفاع عن حقوقنا”، في إِشارة إلى “أتاتورك” وتحميله المسؤولية.
وكان حديث أردوغان في الذكرى الثامنة والتسعين لاتفاقية “لوزان” في العام الحالي 2022، مؤشراً واضحاً حول نواياه عندما قال إن “النجاحات الحاسمة التي حققناها في مختلف الساحات، بدءا من سوريا وليبيا، مرورا بشرق البحر المتوسط، ووصولا إلى مكافحة الإرهاب، هي أوضح مؤشر على إرادتنا لحماية حقوق بلادنا”، وذلك في تأكيد منه أنه ينظر إلى المناطق، التي دخلتها تركيا في سوريا وليبيا وغيرها من الدول، على أنها تدخل في إطار “الحقوق التاريخية لتركيا”.
فخطط الدولة التركية الممنهجة بالتغيير الديمغرافي حتى ولو خالف ذلك الاتفاقيات الدولية التي رسمت الحدود بين الدول بعد الحرب العالمية الأولى، فهي تسعى تحت مسمى إعادة اللاجئين السوريين والتي تأخذ شكل المشروع الإستيطاني بتمرير سياساتها وتشكيل حزام تركماني بعد طردها السكان الأصليين من تلك المناطق عبر عمليات يتداخل فيها النشاط الأمني والتجاري والثقافي واللغوي والسكاني والخدمي، كما أن عمليات قصف شبه يومية والحرب الإعلامية، أصبحت عناوين رئيسية في السياسة التركية تجاه شمال شرقي سوريا، فهي لا تتوانى عن شن الهجمات في أي وقت تحت أية ذرائع من أجل استهداف الكورد والعرب الذين يقفون ضد أطماعها ويعون حقيقة خططها، ففي عام 1939 احتلّ أتاتورك لواء إسكندرون السورية بعد تسويات سياسية مع الفرنسيين، وما يزال اللواء محتلاً حتى الآن تحت اسم يمسح هويته الأصلية واستبدالها بهوية أخرى وهي “هاتاي” التركية ولعل تجربة قبرص ماثلة للعيان أمام الجميع، فهي موجودة هناك منذ عام 1974 بحجة أمنها القومي، حيث قسمت قبرص إلى دولتين وتعترف هي لوحدها بالشطر الذي تسيطر عليه. وفي بحر إيجة، لا يتوقف الجيش التركي عن التحرّش بالقواعد العسكرية اليونانية فوق الجزر الإيجية.
فاليوم تمتلك تركيا قواعد عسكرية كبيرة في شمال العراق، ولعل هذا ما يفسر التصريحات التركية الصريحة حول حقوق تركية التاريخية في الموصل العراقية مقروناً بعمليات عسكرية بحجة محاربة حــ.ـزب العــ.ــمــال الكــ.ـــوردســـتانـــ.ـي.
وعملت السلطات التركية في المناطق الخاضعة لنفوذها في سوريا والتي تدار من قبل فصائلها المسلحة على تغيير معالمها وهويتها المدنية شملت أسماء المدن والساحات والقرى، وقامت برفع علمها في تلك المناطق، فضلاً عن تغييرها السجل المدني للسكان، والحث على تداول الليرة التركية، والسعي لتغيير المناهج الدراسية، وفرض اللغة التركية، حيث فرضت تركيا فور سيطرتها على مدينة عفرين منذ عام 2018 ومناطق أخرى مثل إدلب وأرياف حلب، اللغة التركية على المناهج الدراسية وبدأت بفتح فروع لجامعاتها، وجلبت فروعا للمؤسسات الحكومية والتعامل بالليرة التركية إلى جانب الدولار الأمريكي.
حقيقة، فأن أردوغان عرف كيف يجعل من المعارضة السورية مجرد فصائل وجماعات مسلحة تعيش على الفوضى والإرهاب والارتزاق. وفي كل ذلك وجد أردوغان أن عدوه الثابت والدائم هم الكرد، كل هذا التخبط الذي تعيشه تركيا في ظل رئيسها الحالي وتورطها في حروب لانهائية جعلت منها دولة عاجزة عن حل أبسط مشكلاتها الداخلية، وعليه يمكن القول إن أوهامها بالتخلص من اتفاقية “لوزان” لصالح العودة إلى الميثاق الملي، أي احتلال أراض سورية وعراقية وليبية، ليست سوى أوهام ولدتها الفوضى.
والسبيل الأمثل لإفشال مشروع الميثاق الملي مثلما فشل مشروع العثمانية الجديدة، يجب أن تأتي بالتنديد على مشاريع الاستيطان والتغيير الديمغرافي.
مشاركة المقال عبر